وثانيهما : الخوف عليها من الضعف المفرط حتى تلتقمها الدول المجاورة لها فيكون لمن يجوز موقعها الجغرافي النفوذ والسطوة التي تخشى منها إنكلاتيرة على فقد قوتها واعتبارها المادي والمعنوي ، وبناء على هذا صار لها تداخل كلي في سياسة الدولة العثمانية الخارجية وحملها على ذلك التداخل مع بقية الدول الكبيرة الستة لما لهم من المساس بتلك السياسة سواء كانت قصدا أو بواسطة ، واضطر ذلك انكلاتيره إلى جلب ملاينة فرنسا لأنها دولة بحرية قوية فمسالمتها وموالاتها أولى لها بمقاصدها سيما مع ابتناء سياستها على مجانبة الحرب مهما أمكن كما تقدم ، وذلك تستعمله حتى في الحرب مع الخارج حتى تستعين بكل الوسائل لقطع أسبابه مع التحفظ على حقوقها كما وقع منها أخيرا سنة ١٢٩٤ ه من التوسل بالسلطان العثماني لأمير أفغانستان بإرساله له رسولا لكي يلاين إنكلاتيره ويقطع معها المشاحنة الداعية للحرب من عدم قبوله لسفير مقيم عنده في كابل وغير ذلك مما بعث عليه إغراء الروسيا ولم يقبل التوسط حتى وقع في الحرب كما تقدمت الإشارة إليه في محله ، فذلك الباعث دعاها إلى ملاينة فرنسا كما تقدم في سياستها الخارجية طمعا في التسليم لها في السلطة على مصر أو في الأقل على تعاضدهما معا على إزدياد نفوذهما في مصر ، حتى تسنح الفرصة لإنكلاتيره في إلحاقها بها حيث كانت الآن هي أقرب الطرق إلى الهند بعد فتح خليج السويس مع ما في ذات مصر من الأهمية الكبرى ، فتبين حينئذ وجه زيادة اشتغال إنكلاتيره بأحوال الدولة العثمانية وعلى الخصوص أحوال مصر وما يجرها من ذلك إلى بقية الدول الكبيرة ومع بقية الدول التي تجاور مستعمراتها على حسبها في القوة والضعف ، ثم إعلم أن سياسة الإنكليز لما كانت مبنية في التصرف على مذهب الحزبين اللذين مر ذكرهما في السياسة الداخلية ، وهما : حزب المحافظة وحزب إطلاق الحرية. كانت تخلف في الخارج على حسب مقاصد الحرب الذي يتولى إدارة المملكة فيؤثر ذلك في السياسة الخارجية أيضا تأثيرا بيّنا فترى تغير السياسة يتعاقب على توالي الحزبين حتى يكاد أن لا تثق دولة بالإعتماد على سياسة الإنكليز في موالاتها ، لأنه بينما يكون حزب المحافظة جائلا في الإحتراس على مملكة يهمهم بقاؤها وتعتمد هي على معاضدتهم وإذا بحزب الإطلاق قد جلب أفكار العامة إليه فيصعد إلى تخت الإدارة وينقض غزل سابقه ويخذل من اعتمد عليه ، وسياسة كل من الحزبين وإن لم تكن مباينة دفعة واحدة لسياسة الآخر حتى لا يتسر له إبطال حرب معقودة أو نقض صلح انبرم ، لكنه يسعى بقدر الطاقة في إنهاء كل ما وجده وعدم إثماره حتى يبرهن الخارج على فساد ما سعى فيه سلفه من غير أن يثبت عليه أنه هو الذي كان سببا في الفساد ، ولهذا صار كل من الحزبين يجهد مستطاعه في عدم الدخول في حرب مهمة لكي لا يجد ضدّه بابا للتشنيع به عليه لأن عاقبة الحرب مع الدول الكبيرة مجهولة ، وانبنى على هذا وسم دولة الإنكليز من سائر الأمم المستقلة أنها دولة تجارية إنما تبحث على زيادة غنى أهاليها من غير بحث عن الشرف والجاه لدى الأمم الكبيرة القوية.