وبعد الإستراحة بالمنزل نظرت فإذا بالطبقة السفلى ملآنة بصناديق مكسوّة بالجلد الجميل ومسامير النحاس ومعها بعض خدم وحشم ، والطبقة العليا فيها عائلة من المسلمين ومعهم رجل ممن اتخذ السخرية صناعة له فقدم إليّ وحادثني بكلمات بعضها عربي وبعضها تركي ولم أكن إذ ذاك أفهم التركي فأعلمته بأني لم أفهم فعدل إلى العربي ، وأعلمني أنه من حاشية أحد الكتبة بطرابلس الغرب من متوظفي الترك ، وأنه أرسل إلى الإتيان بعائلته من الأستانة فصحبها هو مع بقية الخدم ، وذكر في حديثه مقدار مرتب متبوعه فظننت أنه هازل فحقق لي المقدار فإذا هو لا يبلغ مائتي فرنك في الشهر ، فتعجبت من الأمر كيف يكون صاحب تلك البذخة مكتفيا بذلك المرتب ويتعب لأجله من الأستانة إلى طرابلس الغرب مع شدة التباين في الهواء بالحر والبرد مع خلو الوظيفة عن مقام عال حتى يتحمل لصاحبها برغبته في الصيت ، فدل على وجود ربح آخر على غير الوجه الرسمي مما يضر بالمملكة والله لطيف حفيظ.
وهاته البلاد أعني فاليتا قاعدة مالطة متصاعدة في جبل حتى أن أغلب طرقها يصعد فيها بدرج ، وبها طرق رحيبة للعجلات أحسنها واحد يمر من الشمال إلى الجنوب خارق البلد إلى طرفيها وبعضه مبلط بالخشب لمجرد تقليد بلاد لندره ، وإلا فلا باعث عليه لا من جهة الوسخ المتسبب عن عدم انقطاع الأمطار ولا من جهة قرقعة العجلات المتكاثرة ولا من جهة رخص الأخشاب ، إذ مالطة على خلاف ذلك كله وهي على نوع البلاد الأوروباوية المتوسطة في الكبر والحسن غير أنها متقنة نظافة الطرقات وإن كان أهلها يبولون ليلا في الطرقات لكنهم يغسلون محلات البول كل يوم ، وبها قصر الحاكم وفيه آثار عتيقة على قدر حالة البلاد ، وليس منها ما يذكر إلا مدافع من أول نوع اخترع وهي ورقات من نحاس معصبة بحبال ثم ملفوف عليها جلد غليظ مطلي بالقطران طول كل مدفع ثمانية أشبار وقطر داخله سبع عقد ، وبقية ما في البلاد ليس منه ما يفرد بالذكر غير أنها حاوية لأنموذج ما في المدن الحسنة مما يرجع إلى التحسين على نحو ما في أوروبا فلا نطيل بإعادته.
أما في التحصين فهي من أول أقسام المراسي والبلدان الحصينة بما حولها من الحصون المعمرة بالمدافع الضخام جدا مع الكثرة وجعلها طبقة فوق أخرى لما ساعد على ذلك من الجبل ، فهي حصون منحوتة فيه لا تخربها القنابر ولو من أعظم المدافع بحيث يصح أن يقال أنها لا يمكن للهاجم اقتحامها أو أخذها إلا بالحصار لاحتياجها إلى القوت من خارج ، نعم يلزم طول مدة الحصار لأنها مركز متوسط في البحر الأبيض ، فتجيء إليها التجارة من البحر الأسود وغيره ويخزن فيها من الحبوب وغيرها ما يكفي أهلها عدة سنين ، كما أنها تشتمل مرساها على معمل مهم للسفن وإصلاحها محتوية خزائنه على كل المواد اللازمة لها ، وبها مرسى أخرى تسمى مرسى موشيطو كأنها محرفة عن مرسى الشط وهي مرسى الكرنتينة أي مكان إقامة الواردين من البلاد المصابة بالأمراض المستوبية ، وهي دون الأولى وحولها مساكن مقسمة على أقسام على وجه يمكن به الإحتراس من مخالطة السكان