وكان أمر الحجاز إذ ذاك تابعا لسلاطين مصر ، فرأى السلطان نور الدين رؤيا هالته ، وهي أنه رأى النبي صلىاللهعليهوسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول له أنجدني أنقذني من هذين الرجلين وأشار إليهما فرآهما رجلين أشقرين وتحقق وصفهما وعلم التأكيد من النبي صلىاللهعليهوسلم في أمرهما والإسراع به ، فاستيقظ السلطان رحمهالله مهتما جدا فما صلى الفجر إلا وقد أحضر وزيره وعشرين نفرا من صناديد فرسانه وأحضر أموالا جسيمة وركب جواده في خاصته وفرسانه وما خف من الزاد وقفل إلى المدينة المنورة مجد السير ، ولم يعلم بما رآه أحدا فوصلها في ستة عشر يوما ، فزار النبي صلىاللهعليهوسلم ثم أمر بإحضار أهل المدينة بعد كتابتهم وصار يتصدق عليهم ويتأمل تلك الصفة التي رآها في النوم إلى أن انفضت الناس ، فقال : هل بقي أحد؟ قالوا : لم يبق سوى رجلين صالحين عفيفين مغربيين يكثران الصدقة ، فلما رآهما إذا هما الرجلان اللذان رآهما مناما ، فسأل عن منزلهما فأخبرا أنهما في رباط خارج المسجد بقربه جهة الحجرة الشريفة ، فأمسكهما ومضى إلى المنزل فلم يجد به سوى خيمتين وكتبا في التصوف ومالا كثيرا وأثنى عليهما الأهالي ثناء كثيرا ، فرفع السلطان حصيرا في البيت فوجد تحته سردابا ذاهبا صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك ، وقال السلطان أصدقاني وضربهما حتى أقرا بأنهما نصرانيان بعثهما ملك من النصارى في زي الحجاج وأعانهما بأموال كثيرة للتوصل للذات الشريفة ونقلها ، فنزلا بأقرب رباط وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلدا يملآنهما ترابا صباحا ويذهبان إلى المقبرة فيفرغانهما هناك على عدة كرات وهكذا دأبهما منذ مدّة فقتلهما علنا وعمل ذلك الحاجز الرصاص رحمهالله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وآله وصحبه ومن والاه (١).
ولا يخفى أن الواقعة كانت مدة حرب الصليب فرأى أحد ملوك النصارى المحاربين للمسلمين ولم يعينه أصحاب التاريخ لعدم اعتنائهم إذ ذاك بمثل ذلك ، حتى أنك تراهم يذكرون الوقائع الحربية في الشام مع النصارى ولا يذكرون من هم حيث تعصبت إذ ذاك ملوكهم مع البابا وصاروا يدا واحدة على المسلمين ، ولذلك لم يعين الملك المرسل لذينك الرجلين لأجل مكيدة المسلمين بنقل نبيهم إليهم والتشفي منهم ولأجل إبطال معجزة تعيين محله عليه الصلاة والسلام دون غيره من الأنبياء عليهم جميعا الصلاة والسلام.
وفي المدينة المنورة أسواق وصناع لكل ضروري ومدارس لسكنى المهاجرين وكتب موقوفة في عدة خزائن بمكتبات أهمها : مكتبة عارف باي ورأيت بها كتابا لم أكن أعرفه ، وهو الجامع الصغير في النحو لابن هشام (٢) مع اشتهار كتبه ، وطرق المدينة غالبها ضيق لا
__________________
(١) انظر شذرات الذهب ٤ / ٢٣٠.
(٢) هو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف ، أبو محمد ، جمال الدين ، ابن هشام. (٧٠٨ ـ ٧٦١ ه). من أئمة العربية. مولده ووفاته بمصر. الأعلام ٤ / ١٤٧ الدرر الكامنة ٢ / ٣٠٨ ، مفتاح السعادة ١ / ١٥٩ النجوم الزاهرة ١٠ / ٣٣٦ ، دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٢٩٥ ومعجم المطبوعات (٢٧٣).