الوظيفة برغبة منهم للدولة الموظفة لمجرد الفخر لهم من غير داع ولا مرتب ، وعلى كل حال فسياسة أولئك القناصل متعلقة بالدولة العثمانيّة إما بواسطة واليها هناك أو بواسطة سفرائهم في تخت السلطنة ، فالسياسة الخارجيّة حينئذ في خصوص جده تابعة لسياسة الدولة العثمانيّة التي سيأتي الكلام عليها في محله إن شاء الله تعالى.
مطلب في عوائد وصفات الأهالي :
اعلم أن البلدين الأكرمين سكانهما الآن أغلبهم من غير العرب الأصليين فإن المدينة لا يوجد بها إلّا العائلة الشريفة حقيقة من العرب ، وقد كنت رأيت رجلا واحدا من ذريّة العباسيين قيما في ضريح عمهم سيدنا حمزة ، ولم يبق من الأنصار هناك إلّا بقيّة عائلة واحدة وبقيّة سكانها كلهم من الآفاق وأكثرهم مغاربة ، وأما مكة فلا يوجد بها من العرب المحققين إلّا عائلة السادة الأشراف وعائلة الشيبي والبقيّة كلهم من الآفاق وأكثرهم هنود ، ولا يخفى أن العوائد والصفات تغلب على السكان باعتبار أصلهم غير أنه لا بدّ أن تحدث فيهم تغيرات تناسب حالة السكان الأصليين ، فأخلاق هذين البلدين على الإجمال مناسبة لأخلاق العرب غير أن أهالي مكة تعتري أخلاقهم الحدة بخلاف أهالي المدينة فإنهم ليني الأخلاق كرام الطباع ، ويغلب على الجميع الحشمة والحياء وسلامهم بالمصافحة أو الإشارة باليد ، ويقفون لكل داخل ولو تكرر دخوله ، وأهالي المدينة أشد حريّة في الطباع وعدم المذلة والتمكن في أخلاق الرجوليّة والجلد ، فيركبون الخيل ويسافرون إلى الحج ركوبا على الهجين من غير تخوت مع السير الحثيث مع التمكن في معرفة الرماية والفروسيّة ولكل منهم سلاح مستوفر.
وأما الملاهي فلا يلتفتون إليها ولا وجود لها كما هو الواجب سيما في تلك الأماكن نعم قد وجد من بعض الوافدين تساهل وتجري على استعمال الخمر وآلات السماع سرّا وكاد أن يكون من بعضهم جهريّا سيما من بعض أجلاف العساكر أو المتوظفين الذين لا يخافون الله ، ومن المعلوم أن الفساد ملائم لطباع البشر فيسرع فيه التقليد لكنهم مع ذلك لا يزال الأمر بحمد الله مستورا فلا تجد المحارم متجاهرا بها ولا ترى حانة لخمار أو دارا معينة للفسوق وإن وجد شيء فإنما يكون في بيت صاحبه في الستر. وعلى قريب من هذا المنحى أهالي جدة.
وأما بقيّة البلدان فهم على أخلاق بقيّة السكان من قبائل العرب الذين لم تبق فيهم من الأخلاق العربيّة التي قال فيها صلىاللهعليهوسلم (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (١) إلّا القليل وعاد إليهم التفاخر بالتظالم وهجوم القوي على الضعيف ، فلا تجد الأمن مستقرا إلّا قليلا إلّا أنهم بقي فيهم حفظ الذمار وتوقير الصغير إلى الكبير ، فإذا جعل الرجل من بيوتاتهم يده على ذقنه كناية
__________________
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ برقم (٩٠٤) والسيوطي في الدرر المنتثرة (٥٨) والقاضي عياض في الشفا ١ / ٢٠٧.