العلماء الوافدين من الأقطار على أحوال خصوصية غير منتظمة ولا مفيدة للعموم ، وفي هاته المدة الأخيرة أنشأ بعض الهنود ذوي التوفيق بواسطة العالم الجليل الشيخ رحمة الله (١) مؤلف كتاب إظهار الحق ، مدرسة بمكة المشرفة يقرأ بها الشيخ المذكور ومن معه من العلماء المجاورين بعض دروس في الهيئة والجغرافيا والطب وبعض علوم أخرى رياضيّة وعلم التصوّف أيضا. وبما ذكرناه بلغ السكان لا سيما الأعراب إلى درجة عالية في الجهل وفساد الأخلاق غير أن لطف الله حف بما حدث منذ مدة قريبة من انتشار طريقة الشيخ السنوسي ، الذي كنا ذكرناه عند ذكرنا لرجوعي من فرنسا ، لأن هذا الشيخ كان استقرّ بمكة المشرفة وأنشأ في جبل أبي قبيس زاوية نشر فيها طريقته فانبثت في قبائل أولئك الأعراب حتى كادت أن لا توجد قبيلة إلّا وفيها زاوية وشيخ يرشد إلى الطريق ، فحصل في القبائل نوع من معرفة أصول الديانة الإسلامية والفروض العينيّة والمحرمات الذاتيّة ودب في هؤلاء شيء من صلاح الحال وإن لم يكبحهم عن التعدي على عباد الله القاصدين لأحد الحرمين ، فيا اسفا على إهمال المعارف وضياعها في مكان ينبوع الحكمة وظهورها ، ولولا وجود أفراد من أطباء الدولة الذين ترسلهم لأحد البلدين الأكرمين أو البعض من الهنود العارفين بالطب على الطريقة القديمة ، لكن معرفتهم لذلك عن علم وتدريس للكتب على طريقة أخذ العلم حقيقة فلهم باع حسن في علاج الأمراض ، ولولا هؤلاء لحرمت السكنى في البلد التي يفترض على عموم الأمة وتعميرها ، فإن أبا حنيفة وغيره من الأئمة يقولون : «بحرمة سكنى البلاد التي لا طبيب بها» ، وكل من المدينة المنورة ومكة المشرفة يفترض حمايتها فكيف يسوغ إهمالها بأمر المعارف وأهلها حتى تخلو من طبيب لولا أولئك ، وإنما قلت في أطباء الهند إنهم عالمون بالطب على الطريقة العلميّة احتراسا من المدجلين ممن يدعي هذا العلم مع جهله المطبق به المتكاثر ظهورهم بالبلدان التي لا تتنبه حكوماتها لمنعهم من ذلك التدجيل لأنهم يضرون بجهلهم ، وقد شاهدت ذلك في نفس مكة عيانا حيث كنت مريضا بإبهام رجلي اليمنى حيث انقلب الظفر تدريجا وغاص في اللحم واشتدّ أمره حتى كاد يمنعني عن المشي ، وكان حصل لي مثل ذلك وأنا بباريس فجيء لي بطبيب خاص بذلك النوع من الأمراض وعالجني برفع الظفر بآلات وكيفيّة في عملها لم يحصل لي منها شدة ألم ، وجعل تحت ظفري ورقة من الرصاص صفيقة لكي لا يغوص ثانيا وقطع الظفر إلى محل التصاقه باللحم وعافاني الله بسبب ذلك ، فلما كنت بمكة وعاودني مثل ما وقع سابقا وذكرت لبعض الحاضرين عندي ما كان وقع ، أخبرني بأنه يوجد حكيم يفعل مثل ذلك فجيء به إليّ وكنت محترسا منه لكني رأيت معه آلات للقطع وغيره كثيرة متقنة وابتدأ في
__________________
(١) هو رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الحنفي نزيل الحرمين ، باحث عالم بالدين. جاور بمكة وتوفي بها سنة (١٣٠٦ ه). الأعلام ٣ / ١٨ إيضاح المكنون ٢ / ٣٢٣ هدية العارفين ١ / ٣٦٦ ومعجم المطبوعات (٩٢٩).