المادة لكسروا الأقلام وعجزوا عن الكلام فتراهم يعبرون بها عن كل الأفعال العربيّة فيقولون اتخذ الباشا مأدبة للقناصل واتخذ الملاطفة لهم واتخذوا الدعاء للدولة إلى أن قال فيا للخسارة والأسف. على مرض اللغة وإشرافها على التلف. فوأيم الله أنه لصدع لا يلتئم. وجرح لا يلتحم» إلى آخر ما أطال به في تلك الرسالة المنشورة في جرائد عديدة عربية ، ومنها العدد ٩٥ من مرآة الشرق.
وهذا الكاتب وإن كان من أهل لبنان البارعين في العربيّة والفرنساويّة لإقامته بفرنسا وصيرورته من أغنيائها لكنه استفاد من ذلك التعليم لأن هذا التعليم شمل أهل لبنان أيضا بفوائده والحق يقال أن فوائده جليلة لحسن التعليم وإن أثر بعض تأثيرات سياسيّة في جلب طباع سهل الطبيعة إلى حب جنسيّة المعلمين لكنه من حيث التعليم له مزيّة معتبرة تقدم بها النصارى هناك على المسلمين حتى تفطن في المدة الأخيرة بعض المسلمين الغيورين لهذا المدرك ووجدوا واليا يمد إليهم يد المساعدة وهو مدحت باشا فعقد لهم جمعيّة تسمى جمعيّة المقاصد الخيريّة ومكنها من الأوقاف التي في البلد وكانت استولت عليها أيدي الإغتصاب والمنافع الشخصيّة فاستعانوا بها مع ما يوزعونه على أهل البلد من كل ذي حميّة وعلى أباء التلامذة وأنشأوا بذلك مدارس على نحو النوع السابق ذكره ، وكنت دخلت إلى كلا القسمين فرأيت من تلامذتهما ما يسر القلب ولعمري أنها لمأثرة جليلة تحق أن تذكر.
وهذا الرجل وهو مدحت باشا هكذا دأبه في كل ولاية وليها لا بد أن يترك فيها مأثرة تذكر وإن اعترى كثيرا منها بعده بعض الخلل ، إلّا أنها لا تزال قائمة لما فيها من المصلحة المشاهدة وهو في الحقيقة من أفراد رجال الدولة الذين يشتمل عليهم تاريخها نصحا وتدبيرا وعملا وعمله أكثر من قوله بحيث لا يجد القادح فيه قولا لولا عجلة فيه ، كأنّه حمله عليها مداومة ما يشاهده في وظائفه من التأنيات والتسويف الذي يستعمله الرؤساء في وظائف الدولة حتى صار لهم طبيعة والوقت لديهم ليس له اعتبار فأداه ذلك إلى انتهازه للفرص التي يجدها لإجرائه المصالح فعلا وجرأه ذلك لما أوقعه أخيرا فيما أداه إلى الوقوع في حتفه رحمة الله عليه رحمة واسعة. وقد حصل من تلك الجمعيّة فائدة لا تنكر في المعارف لأهل تلك البلاد وهي وإن تأسست في جميع البلاد الشاميّة لكنها كانت في بيروت أشد تقدما في المعارف حتى صارت هي أول البلاد الشاميّة في المعارف على العموم وإن كان لدمشق مزيد التقدم في الفنون الشرعيّة ، ثم أن أهالي بيروت وإن كانوا قسمين مسلمين ونصارى لكنهم جميعا في غاية الألفة بعضهم مع بعض وعوائدهم جميعا واحدة حتى في محاسن أخلاقهم ، وقد شاهدت من فضلاء القسمين ما أشكرهم عليه من محاسن الأخلاق والفرح بالضيف مثل الشيخ الدراكة البليغ البارع إبراهيم الأحدب (١) وله ديوان شعر شهير ، ومثل
__________________
(١) هو إبراهيم بن علي الأحدب الطرابلسي (١٢٤٠ ـ ١٣٠٨ ه) شاعر أديب ولد في طرابلس الشام تولى تحرير جريدة ثمرات الفنون وتقلد كثيرا من الرتب السلطانية مات في بيروت. الأعلام ١ / ٥٥ تاريخ الصحافة ٢ / ١٠١ تراجم علماء طرابلس (١٢٢).