إليه هناك لما لي معه من المعرفة السابقة في باريس ولاقيت عنده مرة النصوح رائف باشا متصرف بيروت إذ ذاك ، ولقد شاهدت من هؤلاء الجمع إكراما يوجب عليّ الثناء عليهم جازاهم الله عني كل خير.
وأجل ما حصلت عليه في هاته البلاد أخذي للإجازة في الطريقة القادريّة من مولاي وسيدي السيد سلمان القادري ومثله أبقاه الله من يجيز ويحافظ على شريعة جده الأعلى عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، فإنه عندما أجازني قال لي ما معناه في أمر الأذكار وآداب الطريقة ليست هي إلّا الشريعة فقف على ما ورد به الشرع واعمل به فهكذا يكون المرشدون وما أجازني بذلك إلّا بعد مزيد الإلحاح تواضعا منه أبقاه الله ، إلى أن أتت ليلة سفري فساعفني بمرغوبي فودعته وسافرت صبيحة تلك الليلة إلى القسطنطينيّة في إحدى البواخر السابق ذكرها.
فوقفت بنا بضع ساعات على أزمير التي هي قاعدة إحدى ولايات الدولة ونزلت متفرجا على مرساها وما حولها فإذا هي ذات مرسى جميل حصين صنعه أحد الإفرنج برخصة من الدولة وفيه بواخر جمة وتصل سكة الحديد إلى رصيفه ، وهي ذات فرعين يمتدان إلى داخل الولاية شرقا وغربا وحول المرسى قشلاقات عسكرية ، وبعض ديار للإفرنج ، والطريق فيها واسع جميل وبقيّة الطرقات والأسواق ضيقة عليها آثار الهرم لأن غالب الأبنية من الأخشاب وقدم عهدها فلم أر ما يذكر إلا كونها بلاد تجاريّة لغنى الولاية بما منحها الله تعالى من كثرة الغلال والفواكه التي تحمل منها إلى سائر الآفاق مثل التين المجفف وغيره ، ثم مررنا على جزر كثيرة تابعة للدولة العليّة ذات جمال باهر لكثرة أشجارها وجبالها الخضر المتعممة إذ ذاك بالثلج ، ومن أجملها جزيرة رودس وجزيرة استاني كوي التي تشرح الخاطر بما كساها الله من حلل النبات والأشجار العظيمة ، ثم وصلنا إلى جنه قلعة قبيل الغروب من اليوم الثاني وهي باب الخليج القسطنطيني والبلدة ليست بشيء يذكر سوى أنها مقام حربي إذ حولها وأمامها من الحصون والطوابي والاستحكامات ما يدهش الناظر وهي كثيرة ممتدة على طول مضيق ذلك الخليج على فوهته إلى البحر الأبيض التي هي ضيقة جدّا لا تسع أزيد من مرور أربع بواخر جسيمة ، وتلك الحصون أكثرها لا يكاد يبين لتخلله وسط الجبال المحيطة بالجانبين وما يظهر منها تلوح منه مدافع ضخمة تكاد تخرق الجبال عند انطلاقها ، ولذلك يعد هذا المركز أعظم المراكز الحربيّة تحصنا بحيث لا يمكن أن يجتازه مجتاز بغير رضاء صاحبه ولا تدخله سفينة الآن ولو تجاريّة إلّا بالإذن من موظفي الدولة هناك ، ولذلك وقفت الباخرة هناك لأخذ الإجازة وهي لا تطول مدتها إلّا نحو نصف ساعة في أثنائها طافت بنا القوارب من البياعين لسلع تلك البلاد والمأكولات والفواكه والذي يمكن أن يذكر من سلعها ليس هو إلّا أباريق من طين مطلي بمعدن أخضر يصير به الطين صقيلا ويذهّب بأشكال ، وعلى نحو هاته الأباريق أوان أخر على أشكال مختلفة للمياه ، ثم دخلنا إلى بحر مرمره المتوسط بين فوهتي خليج