هذا مدار كلامهم وهو خطأ فاحش ، إذ موجب الحجب أمر طبيعي في سائر البشر بل في سائر الحيوانات ، ومن المعلوم أن لكل شيء سببا فرؤية الذات والوجه مكشوفا ثم المكالمة ثم المداعبة ثم الرقص في حالة شرب الخمر والطرب ثم المخاصرة ، كلها أسباب تدعو إلى الإتفاق طبعا إلى ما رواءها بلا شك ، وإثبات ذلك بالوجود أقوى دليل حتى صار من عوائدهم أن البكارة هي التي لم تتزوج صاحبتها من غير نظر إلى حقيقتها الأصلية ، والزيادة على هذا في الإستدلال خارج عن موضوعنا ومنصفهم يقر بذلك لا محالة ، وقد غلط من ادعى أن ديانتنا تبيح النظر لوجه المرأة ، وهو جهل بعدم التفرقة بين كون وجه المرأة ليس بعورة وكذا كفاها وقدماها حتى يجوز لغير محرمها النظر إلى تلك الأعضاء وكذلك للنسوة وأمثالها ، وبين كون الوجه يجب ستره عن الرجال الأجانب مطلقا لخوف الفتنة بنص الكتاب في قوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [النور : ٣١] الآية وذلك هو الحق المستقيم (١).
__________________
(١) (مبحث) : إعلم أن عورة المرأة أمام الرجل الأجنبي جميع بدنها سوى وجهها وكفيها فيجوز لها أن تخرج من بيتها كاشفة وجهها إجماعا ، وقد نقل هذا الإجماع ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الكبرى ١ / ١٩٩ ما نصه : «وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل الإجماع على جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال غض البصر» اه. وقال أيضا في حاشية شرح الإيضاح في مناسك الحج ص ٢٧٦ ما نصه : «إنه يجوز لها كشف وجهها إجماعا وعلى الرجال غض البصر ، ولا ينافيه الإجماع على أنها تؤمر بستره لأنه لا يلزم من أمرها بذلك للمصلحة العامة وجوبه» اه.
وقال في موضع آخر ص ١٧٨ قوله : (أي النووي) أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها ينبغي أن يكون من حاجتها لذلك ما إن خافت من نظر إليها يجر لفتنة ، وإن قلنا لا يجب عليها ستر وجهها في الطرقات كما هو مقرر في محله اه.
وقال زكريا الأنصاري في شرح روض الطالب ٣ / ١١٠ ما نصه : «وما نقله الإمام من الإتفاق على منع النساء أي منع الولاة لهن مما ذكر ـ أي من الخروج سافرات ـ لا ينافي ما نقله القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة وعلى الرجال غض البصر عنهن لقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠]. لأن منعهن من ذلك لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته بل لأنه سنة وفيه مصلحة عامة وفي تركه إخلال بالمروءة كالإصغاء من الرجل لصوتها فإنه جائز عند أمن الفتنة وصوتها ليس بعورة على الأصح في الأصل» اه.
وقد جاء عن ابن عباس وعائشة أنّهما فسّرا قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [النور: ٣١] بالوجه والكفين ، وهذا هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة كحديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داوود والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عبد الله بن عباس قال : «جاءت امرأة خثعمية غداة العيد ، فسألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقولها : يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ، قال : «حجي عنه» ، قال ابن عباس وكانت شابة وضيئة ، فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها ، فلوى رسول الله عنق الفضل».
وعند الترمذي من حديث علي : «وجعلت تنظر إليه أعجبها حسنه». قال العباس : يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما» قال ابن عباس : وكان ذلك بعد آية الحجاب اه. ـ