ووافى خالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة (١) ، منصرفا من حجة حجها مكتتما بها ، وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض ، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة ، أقام بالفراض عشرا ، ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة ، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم ، وأظهر خالد أنه فى الساقة.
وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طريق الجزيرة ، لم ير طريقا أعجب منه ، فكانت غيبته عن الجند يسيرة ، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه ، وقدما معا ، وخالد وأصحابه محلقون ، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة ، ولم يعلم أبو بكر رحمهالله ، بذلك إلا بعد ، فهو الذي يعنيه بما تقدم فى كتاب إليه من معاتبته إياه (٢).
وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحى ، فقال له خالد قبل أن قرأ كتابه : ما وراءك؟ فقال : خير ، تسير إلى الشام. فشق عليه ذلك وقال : هذا عمل عمر ، نفس علىّ أن يفتح الله على العراق.
وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة ، وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم ، وليثا من الليوث.
فلما قرأ كتاب أبى بكر ورأى أنه قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام ، كأن ذلك سخا بنفسه. وقال : أما إذ ولاني ، فإن فى الشام من العراق خلفا ، فقام إليه النسير بن ديسم العجلى ، وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل ، ومن رءوس أصحاب المثنى بن حارثة ، فقال لخالد : أصلحك الله ، والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا ، للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا ، وأوسع سعة ، وأعرض عرضا ، والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق ، فكره المثنى مشورته عليه ، وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها.
__________________
(١) الحيرة : قال الهمدانيّ : سار تبع أبو كرب فى غزوته فلما أتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وخلف معه من ثقل من أصحابه فى نحو اثنى عشر ألفا وقال : تحيروا هذا الموضع ، فسمى الموضع الحيرة ، فما لك أول ملوك الحيرة وأبوهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من الكوفة ، والحيرة على النجف ، والنجف كان على ساحل البحر الملح ، وكان فى سالف الدهر يبلغ الحيرة. انظر : الروض المعطار (٢٠٧).
(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٨٤).