والرهبة ، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض ، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم ، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذي تنزلانه من قلوبكما ، فإنكما كتبتما لى نظرا لى ، وقد صدقتما ، ولا غنى بى عن كتابكما ، فتعاهدانى بكتبكما ، والسلام.
وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان ، قال : أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد : أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق لله عليك ، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم ، وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة ، وقد أبلاك الله وأبلى بك ، فغمض بصرك عن الدنيا ، وأله قلبك عنها ، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم (١).
وعن عباس بن سهيل بن سعد قال : قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة ، فدفعه إليه ، وشداد شاك ، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد ، فكانا يقومان إليه حتى تماثل ، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر ، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير ، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة ، فكره أن يخفيه ، وكان فى كتابه إليه : أما بعد ، فإنك فى كنف من المسلمين ، وعدد يكفى حصار دمشق ، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام ، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك ، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم ، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك ، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد ، فإنه لا غنى بك عنه ، والسلام.
فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس ، قال خالد : يرحم الله أبا بكر ، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة ، فعافى الله أبا عبيدة ، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة ، فقال له : رحمك الله ، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة : ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى ، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال ، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه ، بل لعل الوالى أن
__________________
(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٢٣٥ ـ ١٣٦).