مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدءوهم بقتال ، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق ، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله.
وخرج معاذ يقص على الناس ، ويقول : يا قراء القرآن ومستحفظى الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق ، إن رحمة الله لا تنال بالتوانى ، وجنته لا تدخل بالأمانى ، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله ، ألم تسمعوا لقول الله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥] إلى رأس الآية ، أنتم إن شاء الله منصورون ، فأطيعوا الله ورسوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٤٦] ، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم ، وأنتم فى قبضته ورحمته ، وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجى من دونه ، ولا متعزز بغير الله ، وجعل يمشى فى الصفوف يحرضهم ويقص عليهم ، ثم انصرف إلى موضعه.
قال سهل بن سعد (١) : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس ، فجعل يعظهم ويحرضهم ويقول : أيها الناس ، غضوا أبصاركم ، واجثوا على الركب ، وأشرعوا الرماح ، والزموا مراكزكم ومصافكم ، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا فى وجوههم وثوب الأسد فو الذي يرضى الصدق ويثيب عليه ، ويمقت الكذب ويعاقب عليه ، ويجزى الإحسان ، لقد بلغنى أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا ، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم ، فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل.
قال : وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب فى جهاد الروم بالشام ، فقال له : إنى أحب أن تأذن لى فأخرج إلى الشام متطوعا بمالى فأنصر المسلمين ، وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين ، فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا ، فقال له عمر : قد أذنت لك يا أبا سفيان ، تقبل الله جهادك وبارك لك فى رأيك ، وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك ، فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز ، وفى أحسن هيئة ، ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير ، خرجوا متطوعين ، فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين ، ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير فى الناس ، ويقف على أهل كل راية ، وعلى كل جماعة فيحض الناس
__________________
(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢١٩).