ويعظهم ويقول : إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل ، نائين عن أمير المؤمنين ، وأمداد المسلمين ، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم ، وقد وترتموهم فى أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم ، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر فى مواطن المكروه ، فتقربوا إلى خالقكم ، وامتنعوا بسيوفكم ، ولتكن هى الحصون التي إليها تلجون ، وبها تمتنعون.
وقاتل أبو سفيان يومئذ ، قتالا شديدا ، وأبلى بلاء حسنا.
قال : وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا ، ومعهم الصلبان ، وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان ، ولهم دوى كدوى الرعد ، وقد تبايع عظمهم على الموت ، ودخل منهم ثلاثون ألفا فى السلاسل ، كل عشرة فى سلسلة لئلا يفروا ، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين ، أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع فى العسكر ، فقال : يا نساء المسلمين ، أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه ، فأخذن العناهر ، وهى عمد البيوت ، ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن : لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم ، وأقبل خالد إلى أبى عبيدة ، فقال : إن هؤلاء قد أقبلوا فى عدد وحد وجد ، وإن لهم لشدة لا يردها شيء ، وليست خيل المسلمين بكثيرة ، ولا والله لأقامت خيلى لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا ، وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين ، والمسلمون ثلاثة صفوف.
قال خالد : فقد رأيت أن أفرق خيلى ، فأكون أنا فى إحدى الخيلين ، ويكون قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى ، ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة ، فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم ، وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهى جامة على ميمنتهم وميسرتهم ، وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها ، وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم ، وصاروا نشرا (١) ، ثم تحمل عليهم وهى بتلك الحال ، فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم ، وقال لأبى عبيدة : قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه فى جماعة حسنة ، فتكون ردءا للمسلمين ، فقبل أبو عبيدة مشورته ، وقال : أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت ، فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف فى مكانه ، وركب هو فسار فى الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر ، ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردءا لهم ، وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال : يا عباد الله المسلمين ،
__________________
(١) صاروا نشرا : أى منتشرين متفرقين متطايرين.