إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم ، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر فى البأساء ، ثم نزل عن فرسه وقال : من أراد أن يأخذ فرسى ويقاتل عليه فليأخذه ، فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ ، وهو غلام حين احتلم ، فقال : يا أبة ، إنى لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين منى راجلا ، وأنت يا أبة راجلا أعظم غناء منك فارسا ، وعظم المسلمين رجالة ، وإذا رأوك صابرا محتسبا صبروا إن شاء الله وحافظوا ، فقال له معاذ : وفقنى الله وإياك يا بنى لما يحب ويرضى ، فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين ، ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين ، فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال : اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء.
قال : وخرج باهان صاحب الروم فجال فى أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم ، ثم بعث إلى صاحب الميسرة : أن احمل عليهم ، وكان على الميسرة الدرنجار ، وكان متنسكا ، فقال البطارقة والروم الذين معه : قد أمركم أميركم أن تحملوا ، وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان ، فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا ، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال ، فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب ، وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر ، وثبت عظم الناس فلم يزولوا ، وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا ، ولم تنكشف زبيد يومئذ ، وهى فى الميمنة ، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث ، والد عمرو بن الحجاج ، فنادى : يا خيفان يا خيفان ، فاجتمعوا إليه ، ثم شدوا على الروم وهم فى نحو خمسمائة رجل شدة ، فلم يتنهنهوا (١) حتى خالطوا الروم ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين ، وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعد ما كانوا زالوا ، ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا فى الصف حيث كانوا ، واستقبل النساء منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم ، وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل ، وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل ، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل ، ذو النور ، وهو يقول : يا معشر الأزد ، لا يؤتين المسلمون من قبلكم ، وقاتل قتالا شديدا ، قتل من أشدائهم تسعة ، ثم قتل هو ، يرحمهالله.
وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته : يا معشر الأزد ، إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل ، ألا وإن المقتول شهيد ، والخائب من هرب اليوم ،
__________________
(١) النهنهة : الكف ، تقول : نهنهت فلانا فتنهنه ، أى كففته فكف.