ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير ، وقتل من الكفار ما لا يحصى ، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله ، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام ، وانهزم القسطنطين مدبرا ، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا.
وعن حنش الصنعانى (١) قال (٢) : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد ، فلما بلغوا ذات الصوارى (٣) لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة ، فيها القسطنطين بن هرقل ، فقال : أشيروا علىّ ، قالوا : انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس ، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله ، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم ، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض ، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن ، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر ، وو ثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها ، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا ، ثم إن الله نصر المؤمنين ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد ، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم ، ثم أقبل راجعا.
وذكر ابن عبد الحكم (٤) أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال : ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة.
قال : وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال : أشيروا علىّ ، فما كلمه رجل من المسلمين ، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة : إنه لم يبق شيء فأشيروا علىّ ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا : أيها الأمير ، إن الله تعالى يقول : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] ، فقال عبد الله : اركبوا باسم الله ، فركبوا ، وإنما فى كل مركب نصف شحنته ، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر ، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة ، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار. فقال : ما فعلوا؟.
__________________
(١) هو : حنش بن عبد الله الصنعانى.
(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٩٢).
(٣) الصوارى : جمع صار ، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٣٥٢).
(٤) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (١٩٠ ، ١٩١).