مجاشع : الله أكبر ، إنى لأرى الأرض من خلل صفهم ، فكبروا واحملوا ، فقال له المغيرة : اجلس ، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال : احمل يا قيس فإنى حامل ، ونكبنى خيلك ، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك ، فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى ، فيكون أشد عليهم من عدوهم ، وهز المغيرة رايته ، وحمل ، واتبعه قيس ، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين ، فقال طليحة : يا بنى أسد ، ما تستحيون ، الناس يقاتلون وأنتم وقوف ، فحمل فقالت امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة : يا بنى ، والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ، ولقد أسلمتم طائعين ، وهاجرتم راغبين ، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ، فقاتلوا عن دينكم وأمكم ، فو الله إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، فاشهدوا أشد القتال ، فحملوا ، فقالت : اللهم احفظ فىّ بنى.
وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع ، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها : كما أنكم بنو امرأة واحدة ، وزاد هاهنا : ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره ، فأقبلوا يشتدون ، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهى تقول : اللهم ادفع عن بنى ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ، فما كلم رجل منهم كلما.
قال الشعبى : فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء ، فيأتون أمهم فيلقونه فى حجرها ، فترده عليهم ، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم.
وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية ، فقالت لهم من أول الليل : يا بنى ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ، ثم قالت لهم : وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها (١) ، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة ، فخرج بنوها قابلين لنصحها ، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم ، وأنشأ أولهم يقول :
__________________
(١) الحميس : أى التنور.