موقع هذه الجملة عقب جملة (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [النور : ٤٣] كما أشرنا إليه آنفا. ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال : إن في تقليب الليل والنهار لعبرة.
والإشارة الواقعة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى ما تضمنه فعل (يُقَلِّبُ) من المصدر. أي إن في التقليب. ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر.
والتأكيد ب (إِنَ) إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة.
وقيل : الإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى جميع ما ذكر آنفا ابتداء من قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] فيكون الإفراد في قوله : (لَعِبْرَةً) ناظرا إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون.
ولم ترد العبرة في القرآن معرّفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع.
(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))
لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققا كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيدا لأمرين : التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي. والتجدد بكون الخبر فعليا.
وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.
واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ).
وقرأ الجمهور (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) بصيغة فعل المضي ونصب (كُلَ). وقرأه الكسائي والله خالق كل دابة بصيغة اسم الفاعل وجر (كُلَ) بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.