(فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكى في كل سورة أمرا من الأمرين ، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد ، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين. ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين : الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى. قد وقع في خطاب مستقل تماثل بعضه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء ، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين. ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة.
وأيّا ما كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى ، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان. أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم ، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظّ الأمم منه أكثر. إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.
وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب ب (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) [المؤمنون : ٥١] فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها ، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيّه (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ١ ـ ٤] ثم قال في حق الأمة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] الآية. وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضمّه إليه وعوّل عليه.
وقد فات في سورة الأنبياء [٩٢] أن نبين عربية قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فوجب أن نشبع القول فيه هنا. فالإشارة بقوله (هذِهِ) إلى أمر مستحضر في الذهن بيّنه الخبر والحال ولذلك أنث اسم الإشارة ، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك. ومعنى هذا الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئا. ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانا لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة