٤ ـ عدم حصر دلالة الآية على الحقيقة الواحدة.
العالم الذي زوده الله بالعلوم الشرعية أو الكونية ، مهما ارتقى في سلم المعرفة والاستنباط فينبغي أن يعلم أن هناك حدودا ينبغي أن يقف عندها ، وأن الإحاطة بمراد كلام الله بشكل مطلق أمر محال فالباحث في هذا الميدان يحاول توأمة الحقيقة العلمية القاطعة بالآية القرآنية بوجه من الوجوه المترجمة ولا يكون جازما بأن مراد الله هذا الذي وصل إليه.
(وعند إحاطتنا بالدلالات اللغوية الحقيقية والمجازية واستعمالات العرب لها ، إن وجدنا أن حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات ، لا بأس عندئذ أن نرجح الدلالة التي أيدتها الحقيقة العلمية على أن لا نحكم بالبطلان والفساد على الدلالات الأخرى للكلمة من جهة ، وأن لا نحصر معنى الآية على الدلالة التي رجّحناها من جهة أخرى ، فقد تكون الحقيقة العلمية التي رجحنا على ضوئها هذه الدلالة إحدى وجوه دلالات الآية ، وظلالها ممتدة إلى حقائق أخرى لم نتمكن من التوصل إليها حسب ثقافة عصرنا ، إلا أن العلمي والحضاري كفيل أن يميط اللثام لنا عن جوانب أخرى ، فمثلا قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (١) كان إلى ما يقرب من مائة سنة ينظر إلى دلالة تسوية البنان نظرة تختلف عن نظرتنا لها الآن بعد معرفة قضية البصمات ، إلا أننا لا نبطل كلام السلف في معنى الآية ، فالآية تدل على ما قالوه وما فهموه ... وإن كان فهمنا الآن لدلالة الآية على ضوء معطيات العلم الحديث أعمق وأدل ، وكذلك فإن شعورنا في صنعة كلام الخالق سبحانه وتعالى وحكمته سليم وصحيح ، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نقول : إن معنى الآية هو هذا فحسب ، وليس بعد فهمنا لها فهم آخر ، بل قد يكشف لنا المستقبل عن أسرار إلهية في البنان فوق ما تصورناه ووصلت إليه مداركنا العصرية ، وتبقى الآية الكريمة مجال بحث الباحثين ، واستنباط المفكرين ، وبصمة إعجاز على جبين العصور) (٢).
٥ ـ أهمية التخصص العلمي :
من الأهمية بمكان أن يكون المتحدث في قضايا الإعجاز من أهل الاختصاص ، بحيث يكون متمكّنا من العلوم الشرعية واللغوية ، وكذلك متمكنا بأساسيات وأبجدية
__________________
(١) سورة القيامة ، الآية : ٤.
(٢) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ١٥٤ ـ ١٥٥.