رابعا ـ أنيس أخو أبي ذر الغفاري :
كذلك الأمر بالنسبة لأنيس ولغيره ممن سمع القرآن ، فقد مزق القرآن أستار الغفلة في كيانه وقشع سحب الظلام التي تلبّدت في سماء عقله ، ورأى نور الحق ، وضياء الهدى ببضع آيات طرقت مسمعه من فم الحبيب صلىاللهعليهوسلم ، علما أن أنيسا كان من أبرز شعراء العرب وخطبائها ، وممن كان لهم صولة وجولة في ساحات الهجاء والثناء إذا ما تبارى المتبارون ، وها هو ذا يصف القرآن وما شعر عند سماع آياته ، والحديث طويل في صحيح مسلم ونأخذ موطن الشاهد فيه : (... فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي ثم جاء ، فقلت : ما صنعت ، قال : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر ، كاهن ، ساحر ، وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي إنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون) (١).
(أرأيت كيف اعترف المخالفون من المشركين بسموّ مكانة القرآن ، وكيف أثنى عليه أناس تحولوا بسببه من الشرك إلى الإسلام بيقين فإنه لم يصدر ثناء هؤلاء واعتراف أولئك المشركين حين صدر إلا تنويها بأمر يعرفه ذوو الخبرة ، فهو إخبار عن شيء باد للعيون لا يرسل أحدهم بصره إلا رآه ، فقد أطلق كل من القائلين قوله وهو واثق أنه معلوم للجميع فليس من منصف بصير بمراتب الفضل في اللغة مؤمنا كان أم جاحدا إلا وجد نفسه مسوقا للاعتراف بإعجازه ، شاء أم أبى ، لظهوره عند نظرائه لشدة وضوحه ، لذا فإن أقوالهم دليل بالغ على إعجاز القرآن) (٢).
ويذيّل هذا المبحث بذكر تصريحات أبرز أساطين العلم والمعرفة ، ورائدي النهضة الحضارية الغربية المعاصرة الذين قرءوا القرآن بتدبر ورويّ ، فأفرزت دراساتهم هذه مجموعة طيبة وكبيرة من شهادتهم بإعجاز القرآن ، وبغض النظر عمّن آمن منهم ، أو من قال ذلك على سبيل الإنصاف والحق.
__________________
(١) رواه مسلم ، فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أبي ذر رضى الله عنه ، ٤ / ١٩٢٠ رقم : (٢٤٧٣) ، والذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ٢ / ٥١.
(٢) الرسالة الشافية ، للجرجاني ، ثلاث رسائل في الإعجاز ، ص : ١١٤ ـ ١١٥.