تمهيد
الجبال كلمة تدل على الشموخ والكبرياء ، ووصف يخيب من حاول الاتصاف به إلا الجبال ، فهي التي تنزوي أمامها رقاب الجبابرة ، وتنقطع لديها الأعناق المشرئبة التي تحاول أن تطيل شموخها ، وفي ذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى أولئك الذين يمشون في الأرض متبخترين متكبرين قائلا : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (١).
ومع تلك العظمة التي اتصفت بها الجبال فإن الحق ساقها في معرض المدح والثناء ، ومعرض ضرب الأمثال في العبودية والخشوع لسلطان القرآن وأنوار البيان ، قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢).
إلا أن الجبال لم تغترّ بعظمتها ، ولم تتباه بمظاهر الرفعة والإباء التي أودعها الله فيها ، فلما عرض الحق جل جلاله الأمانة عليها ، تسرّب إليها الرعب وداخلها الخوف ، لشدّة تحمل الأمانة والمسئولية والتكاليف السماوية ، فآثرت أن تنقاد للحق طواعية دون اختيار أو عزم ، لأنها أدركت بصدق ثقل الأمانة ، وهو موقف الحساب وموطن الجزاء يوم الدين ، قال الله سبحانه وتعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٣).
إذن ، جدير بالباحثين أن يحركوا الطاقة العقلية والعلمية في دراسة هذه الآية الدالة على بديع صنع الله ، وتألق مخلوقاته ، ليصلوا إلى مقام التفكر الذي أمروا به ، ومن ثمّ إلى مقام الخشوع والولاء المطلق للخالق العظيم سبحانه وتعالى.
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية : ٣٧.
(٢) سورة الحشر ، الآية : ٢١.
(٣) سورة الأحزاب ، الآية : ٧٢.