على مرجح ثان وهكذا. وعلى الثاني يكون الفعل عند ذلك المرجح واجب الصدور عن العبد بحيث يمتنع تخلفه عنه ، وإلّا فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجح واجب الصدور ، وجاز وقوع الطرف الآخر ، يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقق دون الآخر بلا دليل. فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجح واجب الصدور ومعه يكون اضطراريا لا اختياريا(١).
يلاحظ عليه : إنّ كل ممكن يكون الوجود والعدم بالنسبة إليه متساويان ، ويتوقف خروج الممكن عن أحد الطرفين إلى علّة تامة تجعله واجبا وتجعل الطرف الآخر ممتنعا. وإلّا فلو كان ـ مع وجود العلّة التامّة ـ وقوع الطرف الآخر ممكنا للزم خروج الممكن عن مركز التساوي إلى أحد الطرفين بلا سبب وعلّة وقد برهن الحكماء على قاعدتهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، بما ذكرناه. وبذلك يظهر : إنّ التعبيرات الواردة في الاستدلال تعبيرات غير فنّية ، فإنّ وقوع الممكن لا يتوقف على وجود المرجح مع إمكان وجود الآخر ، بل يتوقف على وجود علّة تامة تجعل أحد الطرفين ضروري التحقق والآخر ممتنعه.
إذا عرفت هذا فنقول : إنّ صدور الفعل من الإنسان يتوقف على مقدمات ومبادي ومعدّات كتصور الشيء والتصديق بفائدته والاشتياق إلى تحصيله وغير ذلك من المبادي النفسانية والخارجية ممّا لا يمكن حصره. فربما تكون هناك العشرات من المقدمات تؤثر في صدور الفعل عن الإنسان سواء التفت إليها الإنسان أو لا. ولكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقق الفعل وصدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانية التي يندفع بها الإنسان نحو الفعل ، ومعها يكون أحد الطرفين واجب التحقق والطرف الآخر ممتنعه. والمرجح الذي تلهج به الأشاعرة مبهم ليس شيئا وراء تلك الإرادة التي إذا انضمت إلى المبادي المتقدمة عليها تخرج الفعل عن حد الإمكان إلى حد الوجوب وتضفي على الطرف الآخر صبغة الامتناع. وليس ذلك المرجح
__________________
(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ـ ١٥٠ بتلخيص وتصرّف.