عبد القادر : طالبتني نفسي يوما بشهوة ، فكنت أضاجرها ، وأدخل في درب وأخرج إلى درب أطلب الصّحراء ، فبينما أنا أمشي ، إذ رأيت رقعة ملقاة ، فإذا فيها : ما للأقوياء والشّهوات ، إنّما خلقت الشّهوات للضّعفاء ليتقوّوا بها على طاعتي. فلمّا قرأتها خرجت تلك الشّهوة من قلبي.
قال : وقال لي : كنت أقتات بخرنوب الشّوك ، وورق الخسّ من جانب النّهر (١).
قرأت بخطّ أبي بكر عبد الله بن نصر بن حمزة التّيميّ : سمعت عبد القادر الجيليّ قال : بلغت بي الضّائقة في غلاء نزل ببغداد ، إلى أن بقيت أيّاما لا آكل فيها طعاما بل أتتبّع المنبوذات ، فخرجت يوما إلى الشّطّ لعلّي أجد ورق الخسّ والبقل ، فما ذهبت إلى موضع إلّا وجدت غيري قد سبقني إليه ، فرجعت أمشي في البلد ، فلا أدرك موضعا قد كان فيه شيء منبوذ إلّا وقد سبقت إليه ، فأجهدني الضّعف ، وعجزت عن التّماسك ، فدخلت مسجدا ، وقعدت ، وكدت أصافح الموت ، إذ دخل شاب أعجميّ ومعه خبز وشواء ، وجلس يأكل ، فكنت أكاد كلّما رفع يده باللّقمة أن أفتح فمي من شدّة الجوع ، حتّى أنكرت ذلك على نفسي ، إذ التفت فرآني ، فقال : بسم الله ، فأبيت ، فأقسم عليّ ، فبادرت نفسي إلى إجابته ، فأبيت مخالفا لها ولهواها ، فأقسم عليّ ، فأجبته ، وأكلت مقصّرا ، وأخذ يسألني : ما شغلك ، ومن أين أنت؟ فقلت : أمّا شغلي فمتفقّه ، وأمّا من أين ، فمن جيلان. فقال : وأنا والله من جيلان ، فهل تعرف لي شابّا جيلانيّا اسمه عبد القادر ، يعرف بسبط أبي عبد الله الصّومعيّ الزّاهد؟ قلت : أنا هو. فاضطرب لذلك ، وتغيّر وجهه ، وقال : والله يا أخي ، لقد وصلت إلى بغداد ، ومعي بقيّة نفقة لي ، فسألت عنك ، فلم يرشدني أحد ، إلى أن نفدت نفقتي ، وبقيت بعدها ثلاثة أيّام لا أجد ثمن قوتي إلّا من مالك معي ، فلمّا كان هذا اليوم الرابع قلت : قد تجاوزتني ثلاثة أيّام لم آكل فيها طعاما ، وقد أحلّت لي الميتة ، فأخذت من
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٤٣ ، ٤٤٤ ، الذيل على طبقات الحنابلة ١ / ٢٩٨ ، فوات الوفيات ٢ / ٣٧٣ ، ٣٧٤.