فكلمة «من» في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» من أيّهما؟ لا شكّ في أنّ إيجاديّته مخالف للوجدان ، ولا معنى لحكائيّته بعد. هذا أوّلا.
وثانيا : أنّ السير في هذه الجملة يكون مأمورا به ، ولا بدّ في المأمور به من كونه أمرا كلّيّا ، ولا يمكن أن يكون جزئيّا خارجيّا ؛ إذ السير قبل تحقّقه ليس بجزئي خارجي ، وبعد تحقّقه في الخارج يكون الأمر به لغوا ، فكيف يكون الموضوع له واقعيّة خارجيّة وخصوصيّة خاصّة بعد القطع بأنّ استعمال كلمة «من» في هذه الجملة لا يكون مجازا؟!
وأجابوا عنه بوجوه :
الأوّل : أنّ المعاني الحرفيّة واقعيّات اندكاكيّة في أطرافها ومتعلّقاتها ولا استقلال لها ، فتكون الحروف من حيث الكلّيّة والجزئيّة تابعة لمتعلّقاتها ، فيكون معنى «من» في جملة : «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّا تبعا للسير.
الثاني : ما يستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ (١) وهو : أنّ ما نحن فيه يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولازم ذلك تعدّد المعاني والموضوع له واستقلال كلّ منهما ، والفرق بينهما من جهتين ، وهما أنّ الوضع في المشترك اللفظي متعدّد بخلاف ما نحن فيه ، وأنّ المعاني فيه محدودة بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ المعاني هاهنا متعدّدة بتعدّد أفراد العامّ ، فلا مانع من القول : بأنّ كلمة «من» في هذه الجملة استعملت في معان متعدّدة.
إن قلت : إنّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد محال.
قلنا : أوّلا : لا نسلّم استحالته كما سيأتي مفصّلا ، وثانيا : لو سلّمنا الاستحالة فهي في موارد كانت للّفظ معان مستقلّة ، مثل : كلمة «عين» لا في موارد كانت
__________________
(١) تهذيب الاصول ١ : ٣١ ـ ٣٢.