ولهذا أرسله ولم يستنبئه بالوحي هنا ، وأمره بالرياضة والحضور والمراقبة ووعده وقوع القيامة الكبرى عن قريب. فهذا الاختيار قريب من الاجتباء الأصلي المشار إليه بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)) (١) متوسط بينه وبين الاصطفاء. وكرر (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بالتأكيد ، وتبديل الربّ بالله لئلا يقف مع الصفات في الحضرة الأسمائية فيحتجب عن الذات إذ الرب هو الاسم الذي تجلى به له ، إذ لا يربه عند طلب الهداية والقبس إلا بذلك الاسم العليم الهادي الذي هو جبريل ، أي : إنني الواحد الموصوف بجميع الصفات (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لم أتكثر ولم يتعدد أنائيتي وأحديتي بكثرة المظاهر وتعدّد الصفات (فَاعْبُدْنِي) خصّص عبادتك بذاتي دون أسمائي وصفاتي بالعبادة الذاتية وتهيئة استعداد فناء الآنية في حقيقتي والتسبيح المطلق الذاتي (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : صلاة الشهود الروحي لذكر ذاتي فوق صلاة الحضور القلبي لذكر صفاتي.
[١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))
(إِنَّ السَّاعَةَ) القيامة الكبرى بالفناء المحض في عين الأحدية (آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) باحتجابي بالصفات لتنفصل المراتب وتظهر النفوس والأعمال (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) بحسب سعيها من الخير والشرّ ، ويتميز الكمال والنقصان والسعادة والشقاوة فلا أظهرها إلا لأفراد خواصّي واحدا بعد واحد لأني إن أظهرتها ظهر فناء الكل فلا نفس ولا عمل ولا جزاء ولا غير ذلك.
[١٦] (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))
(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) فتبقى في حجاب الصفات (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) لقصور استعداده فيقف في بعض المراتب محجوبا إما بالصفات أو الأفعال أو الآثار أو الأنداد ، أي : الشرك الخفيّ والجليّ (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في مقام النفس أو القلب ، فإن الهوى باق ببقاء الأنانية فتهلك أنت كما هلك من صدّك.
[١٧ ، ١٨] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨))
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إشارة إلى نفسه ، أي : التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه.
(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي : أعتمد في عالم الشهادة وكسب الكمال والسير إلى الله والتخلق بأخلاقه عليها ، أي : لا يمكن هذه الأمور إلا بها (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي :
__________________
(١) سورة طه ، الآية : ١٢٢.