ناراً) هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية رآها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية (فَقالَ لِأَهْلِهِ) القوى النفسانية (امْكُثُوا) اسكنوا ولا تتحرّكوا إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنوّر وتصير ذاته فضيلة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ) من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق أي : اكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية (فَلَمَّا أَتاها) أي : اتصل بها (نُودِيَ) من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) محتجبا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي متجليا فيها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي : نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرّد عنهما فقد تجرّد عن الكونين أي : كما تجرّدت بروحك وسرّك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلت بروح القدس تجرّد بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما نعلين ولم يسمهما ثوبين لأنه لو لم يتجرّد عن ملابسهما لم يتصل بعالم القدس والحال حال الاتصال ، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (١) فكأنه بقيت علاقته معهما والتعلق بهما يسوّخ قدمه التي هي الجهة السفلية من القلب المسماة بالصدر ، فهما بعد التوجه الروحي والسري نحو القدس ، فأمره بالقطع عنهما في مقام الروح ، ولهذا علل وجوب الخلع بقوله : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي : عالم الروح المنزّه عن آثار التعلق وهيئات اللواحق والعلائق المادية المسمى طوى ، لطيّ أطوار الملكوت وأجرام السموات والأرضين تحته. ولقد صدق من قال : أمر بخلعهما لكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ. وقيل : لما نودي وسوس إليه الشيطان : إنك تنادى من شيطان! فقال : أفرق به ، إني أسمع من جميع الجهات الست بجميع أعضائي ولا يكون ذلك إلا بنداء الرحمن.
[١٣ ، ١٤] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤))
(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) هذا وعد بالاصطفاء الذي كان بعد التجلي التام الذاتي الذي جعل جبل وجوده دكّا بالفناء فيه بالاندكاك وخروره صعقا عند إفاقته بالوجود الحقاني كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (٢) ، وهذا التجلي هو تجلي الصفات قبل تجلي الذات ،
__________________
(١) سورة المزمل ، الآية : ٨.
(٢) سورة الأعراف ، الآيات : ١٤٣ ـ ١٤٤.