الكبرى (يَخْسَرُ) الذين يثبتون الغير إذ كل ما سواه باطل ومن أثبته واحتجب به عنه مبطل (وَتَرى) يا موحد (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) لا حراك بها إذ هي بنفسها ميتة غير قادرة كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) أو تراها جاثية في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء على حالها في النشأة الأولى عند الاجتنان وفيه سرّ.
(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي : اللوح الذي أثبت فيه أعمالها وتجسدت صورها وانتقشت فيه على هيئة جسدانية فإن كتابة الأعمال إنما تكون في أربعة ألواح أحدها : اللوح السفلي الذي يدعى إليه كل أمّة ويعطى بيمين من كان سعيدا وشمال من كان شقيّا ، والثلاثة الأخرى سماوية علوية أشير إليها فيما قبل. وإنما قلنا هذا الكتاب هو اللوح السفلي لأن الكلام هاهنا في جزاء الأعمال لقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والناسخون هم الملكوت السماوية والأرضية جميعا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي التقليدي أو اليقيني العلمي (وَعَمِلُوا) ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني من أبواب البرّ (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي) رحمة ثواب الأعمال في جنّة الأفعال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) احتجبوا عن الحق بالكفر الأصلي والانغماس في الهيئات الجرمانية المظلمة بالإجرام بدليل قوله : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : نترككم في العذاب كما تركتم العمل للقائي في يومكم هذا لعدم اعترافكم ، أو نجعلكم كالشيء المنسيّ المتروك بالخذلان في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا بنسيان العهد الأزلي.
[٣٦ ـ ٣٧] (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الكمال المطلق الحاصل للكل ببلوغ الأشياء إلى غاياتها وحصولها على أجلّ ما يمكن من كمالاتها (رَبِّ السَّماواتِ) مكمل الأرواح ومدبرها (وَرَبِّ الْأَرْضِ) مدبر الأجساد ومالكها ومصرّفها (رَبِّ الْعالَمِينَ) موجه العالمين إلى كمالاتهم بربوبيته إياهم (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أي : استعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه ، فكل يحمده بإظهار كماله وجميع صفاته بلسان حاله ويكبره بتغيره وإمكانه وانخراطه في سلك المخلوقات المحتاجة إليه الفانية بالذات القاصرة عن سائر الكمالات غير ما اختصّ به (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي القاهر لكل شيء بتأثيره فيه وإجباره على ما هو عليه (الْحَكِيمُ) المرتب لاستعداد كل شيء بلطف تدبيره ، المهيّئ لقبوله لما أراد منه من صفاته بدقيق صنعته وخفيّ حكمته.
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.