والتداني يكون الخلق هو القوس الأول الحاجب للهوية في أعيان المخلوقات وصورها والحق هو النصف الأخير الذي يقرب منه شيئا فشيئا وينمحي ويفنى فيه ، وباعتبار النهاية والتدلي فالحق هو القوس الأول الثابت على حاله أزلا وأبدا والخلق هو القوس الأخير الذي يحدث بعد الفناء بالوجود الجديد الذي وهب له (أَوْ أَدْنى) من مقدار القوسين بارتفاع الاثنينية الفاصلة الموهمة لاتصال أحد القوسين بالآخر وتحقق الوحدة الحقيقية في عين الكثرة بحيث تضمحل الكثرة فيها وتبقى الدائرة غير منقسمة بالحقيقة أحدية الذات والصفات.
[١٠ ـ ١١] (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١))
(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) في مقام الوحدة بلا واسطة جبريل عليهالسلام (ما أَوْحى) من الأسرار الإلهية التي لا يجوز كشفهالصاحب النبوّة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) في مقام الجمع والفؤاد هو القلب المترقي إلى مقام الروح في الشهود المشاهد للذات مع جميع الصفات الموجود بالوجود الحقاني ، وهذا الجمع هو جمع الوجود لا جمع الوحدة الذي لا فؤاد فيه ولا عبد لفناء الكل فيها المسمى باصطلاحهم : عين جمع الذات ، وأما هذا الجمع فيسمى الوجه الباقي أي : الذات الموجودة مع جميع الصفات.
[١٢] (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))
(أَفَتُمارُونَهُ) أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوّره ، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصوّر الأمر المختلف فيه ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقية.
[١٣ ـ ١٧] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧))
(وَلَقَدْ رَآهُ) أي : جبريل في صورته الحقيقية (نَزْلَةً أُخْرى) عند الرجوع عن الحق والنزول إلى مقام الروح (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قيل : هي شجرة في السماء السابعة ينتهي إليها علم الملائكة ولا يعلم أحد ما وراءها وهي نهاية مراتب الجنة يأوي إليها أرواح الشهداء فهي الروح الأعظم الذي لا تعين وراءها ولا مرتبة ولا شيء فوقها إلا الهوية المحضة ، فلهذا نزل عندها وقت الرجوع عن الفناء المحض إلى البقاء ورأى عندها جبريل عليهالسلام على صورته التي جبل عليها (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها أرواح المقرّبين (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ) من جلال الله وعظمته (ما يَغْشى) لأنه صلىاللهعليهوسلم كان يراها عند تحققه بالوجود الحقاني بعين الله فرأى الحق متجليا في صورتها ، فقد غشي السدرة من التجلي الإلهي ما سترها وأفناها فرآها بعين الفناء لم يحتجب بها وبصورتها ولا بجبريل وحقيقته عن الحق ، ولهذا قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ)