الشرع وشرعها الأشواق والإرادات التي تجري عند ارتفاعها وتعلقها بالعالم العلوي بقوة رياح النفحات الإلهية سفينة الشريعة والطريقة براكبها إلى مقصد الكمال الحقيقي الذي هو الفناء في الله ، ولهذا قال عقيبه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : كل من على الجواري السائرة واصل إلى الحق بالفناء فيه ، أو كل من على أرض الجسد من الأعيان المفصلة كالروح والعقل والقلب والنفس ومنازلها ومقاماتها ومراتبها ، فان عند الوصول إلى المقصود (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الباقي بعد فناء الخلق ، أي : ذاته مع جميع صفاته (ذُو الْجَلالِ) أي : العظمة والعلوّ بالاحتجاب بالحجب النورانية والظلمانية والظهور بصفة القهر والسلطنة (وَالْإِكْرامِ) بالقرب والدنو في صور تجليات الصفات وعند ظهور الذات بصفة اللطف والرحمة.
[٢٩ ـ ٣٢] (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢))
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من أهل الملكوت والجبروت (وَالْأَرْضِ) من الجنّ والأنس ، والمراد : يسأله كل شيء فغلب العقلاء وأتى بلفظ من أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما.
(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه فله كل وقت في كل خلق شأن بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده ، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار يفيضها عليه مع حصول الاستعداد ، ومن استعدّ بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ولوث العقائد الفاسدة والخبائث للشرور والمكاره وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. وهذا معنى قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لأنه تهديد وزجر عن الأمور التي بها يستحق العقاب ، وسميا ثقلين لكونهما سفليين مائلين إلى أرض الجسم.
[٣٣ ـ ٣٤] (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤))
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي : الباطنيين والظاهريين (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالتجرّد عن الهيئات الجسمانية والتعلقات البدنية (فَانْفُذُوا) لتنخرطوا في سلك النفوس الملكية والأرواح الجبروتية ، وتصلوا إلى الحضرة الإلهية (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) بحجة بينة هي التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء في الله.
[٣٥ ـ ٣٦] (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))