فوقعوا في مقام النفس مع حجاب العجب الذي هو أشدّ من الذنب (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) من مواطنهم ومألوفاتهم أي : صفات نفوسهم ومعلوماتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) من العلوم والفضائل الخلقية (وَرِضْواناً) من الأحوال والمواهب السنية من أنوار تجليات الصفات (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ببذل النفوس لقوة اليقين (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم ، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي : المقرّ الأصلي الذي هو الفطرة الأولى والعهد الأول الذي هو محل الإيمان وموطنه ولهذا قرنه به ، فإن النفس موطن الغربة (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قبل هجرة المهاجرين من دار الغربة التي هي النفس إليها لأن هذه الدار هي الدار الأصلية المتقدمة على ديارهم ، ولهذاقال عليهالسلام : «حبّ الوطن من الإيمان». فهم الذين لم يسقطوا عن الفطرة ولم يحتجبوا بحجاب النفس في النشأة وبقوا على صفائها بخلاف الأولين الذين تكدّروا وتغيروا ثم رجعوا إلى الصفاء بالسير والسلوك (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لوجود الجنسية في الصفاء وتحقق المناسبة الأصلية والقرابة الحقيقية بالوفاء وتذكر العهد السابق بالموافقة في الدين والإخاء (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا) أوتي المهاجرون من الحظوظ لسلامة قلوبهم عن آفات النفوس وطهارتها عن دواعي الحرص وتنزّهها عن محبة الحظوظ وتيقنها بالأقسام.
(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) لتجرّدهم وتوجههم إلى جناب القدس وترفّعهم عن مواد الرجس وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا باقتضاء الفطرة وفرط محبة الإخوان بالحقيقة والأعوان في الطريقة (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم لمكان الفتوّة وكمال المروءة ولقوة التوحيد والاحتراز عن حظ النفس وخوف الرجوع إلى المطالب الجزئية بعد وجدان الذوق من المطالب الكلية.
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) بعصمة الله وكلاءته ، فإنّ النفس مأوى كل شرّ ووصف رديء ، وموطن كل رجس وخلق دنيء ، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها لملازمتها الجهة السفلية ومحبتها الحظوظ الجزئية فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بالكمالات القلبية.
[١٠ ـ ١٢] (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))