فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا وإذا كان بذله للنفس في الله وفي سبيله لا للنفس كما قال : «ترك الدنيا للدنيا» ، كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء فكان من الذين قال فيهم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (١) ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم لقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢).
وبالحقيقة لا تكون محبة الله إلا منه.
(فَلَمَّا زاغُوا) عن مقتضى علمهم لفرط الهوى وحب الدنيا (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن طريق الهدى وحجبهم عن نور الكمال لإقبالهم على الجهة السفلية وميلهم عن مقتضى الفطرة الأصلية (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مقتضى الفطرة التي هي الدين القيم إلى نور الكمال لزوال الاستعداد وعدم القابل.
[٧ ـ ٩] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إذ وضع نوره في الظلمة وصرف بضاعة البقاء ، أي : الاستعداد الفطري في متاع الفناء مع وجود الداعي الخارجي الذي هو النبي إلى الإسلام الذي هو مقتضى ذلك النور الأصلي (وَاللهُ لا يَهْدِي) الموصوفين بهذه الصفة إلى النور الكمالي أي : نور ذاته وسبحات وجهه لما ذكر في الفاسقين.
[١٠ ـ ١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان التقليدي لأن التجارة المنجية من العذاب الأليم التي دعاهم إليها إنما تكون للمحتجبين عن نور الله بصفات النفوس وهيئاتها (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تحقيقا ويقينا استدلاليا (وَ) بعد صحة الاستدلال وقوة اليقين (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) لأن بذل المال والنفس في سبيل الله لا يكون إلا عن يقين (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنهما ستصيران إلى الفناء فإذا بعتموهما بالباقيات من اللذات المستعلية عليهما كان خيرا لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) علما يقينيا.
[١٢] (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٦.
(٢) سورة المائدة : الآية : ٥٤.