الخيال والفكر ، مقصورا على تحصيل المعاش مناسبا للنفس وقواها ، فلما تنوّر بنور القدس بعد عن منازل القوى ومبالغ علمها وإدراكها. وهذا معنى قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي : نورا ملكوتيا وحجة عقلية تطردنا عن الأفق العقلي وتحفظ العقل عن أن يميل إلى النفس فتختلط بنا وتنزل إلى ما ارتقينا إليه من المقاعد فنكتسب منه الآراء القياسية المؤدّية إلى موافقات البدن وأمان النفس.
[١٠] (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أرض البدن من القوى فتبقى في المجاهدة والرياضة ، ممنوعة من لذاتها ، محجوبة عن مشتهياتها وما تهواها (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) بالأحكام الشرعية والمناهي الدينية والأوامر التكليفية (رَشَداً) استقامة وصوابا وما يوجب صلاحها ، فإن مقصد الشرع وكمال النفس أمر وراء مبالغ إدراك هذه القوى.
[١١ ـ ١٣] (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))
(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) كالقوى المدّبرة لنظام المعاش وصلاح البدن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) من المفسدات كالوهم والغضب والشهوة العاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية (كُنَّا) ذوي مذاهب مختلفة لكل طريقة ووجهة مما عيّنه الله ووكله به (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : تيقنا أن الله غالب علينا لن نعجزه ، كائنين في أرض البدن ولا هاربين إلى سماء الروح لعجز كل أحد منا عن فعل الآخر ، فكيف عن فعل مبدأ القوى والقدر (الْهُدى) أي : القرآن تنوّرنا (بِهِ) وصدّقناه بامتثالنا أوامره ونواهيه كماقال عليهالسلام : «لكل أحد شيطان ، إلّا أن شيطاني أسلم على يديّ». (فَلا يَخافُ) بخس حق من حقوقه وكمالاته التي أمكنت له وحظوظه أيضا ، فإن النفس وإن اطمأنت وتنوّرت قواها بحيث لا تزاحم السرّ ولا تعلو القلب لم تمنع من الحظوظ بل وفرّت عليها لتتقوّى بها هي وقواها على الطاعة وتنشط على الأفعال الإلهية حالة الاستقامة كتمتيع نفسه عليهالسلام بنكاح تسع نسوة وغيره من التمتعات ، ولا رهق ذلّة وقهر بالرياضة أو بخس كمال ورهق رذيلة من الرذائل أو لحوق هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد.
[١٤ ـ ١٦] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦))
(مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) المذعنون لطاعة القلب وأمر الربّ بالطبع كالعاقلة (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ)