خلافها فخاف واعتذر إليه بالخوف من الموالي لعدم صلاحيتهم لذلك ، فأجابه باسمه الواقي ، فوقاه شرّهم ، وبامتناع وجود الولي من نسله لعدم الأسباب بقوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) فأجابه باسمه العليم لأنه علم عدم الأسباب الذي تعلل به محتجا بها عن المسبب وعلم وجوده مع عدمها وما علمه لا بدّ من كونه ، كما قالت الملائكة لامرأة إبراهيم عليهالسلام : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١).
ولما بشره بالولد ، وهداه إلى مقتضى العلم ، تعجب منه لضراوته في عالم الأسباب بالحكمة وكرر التعلل بعدم الأسباب بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) إلخ ، لأنه كان يطلب ولدا حقيقيا يلي أمره ويحذو حذوه ويسلك طريقه في القيام بأمر الدين وإن لم يكن من نسله لعدم أهلية مواليه لذلك ، فكرر البشارة وهداه إلى سهولة ذلك في قدرته ، فالتمس علامة تدل عليه ، فهداه إليها وأنجز وعده باسمه الصادق فرحمه بهبة يحيى له. فاقتضت الأحوال الأربعة مع حال الوعد والبشارة إجابته بالرحمة عليه بالأسماء الخمسة. فعلى هذا يكون (ك) إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعفه وشيخوخته وعجزه و (ه) إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته به وإرادة مطلوبه له و (ي) إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي و (ع) إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب و (ص) إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد. ومجموع الأسماء الخمسة هو : الرحيم بهبة الولد ، وإفاضة مطلوبه في هذه الأحوال. فذكر هذه الحروف وتعدادها إشارة إلى أن ظهور هذه الصفات التي حصل بها هذه الأسماء هو ظهور رحمة عبده زكريا وقت ندائه وذكرها ذكر تلك الرحمة التي هي وجود يحيى عليهالسلام. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ك) عبارة عن الكافي و (ه) عن الهادي و (ي) عن الواقي و (ع) عن العالم و (ص) عن الصادق والله أعلم.
والتطبيق أن يقال : نادى زكريا الروح في مقام استعداد العقل الهيولاني نداء خفيّا ، واشتكى ضعفه ، وتوسل بعنايته ، واشتكى خوف موالي القوى النفسانية وعقر امرأة النفس بولد القلب (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) العقل الفعّال (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) موصوفا بالكمالات المرضية (نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) القلب (اسْمُهُ يَحْيى) لحياته أبدا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أتوصل بها إليه (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ) ناس الحواس بالشواغل الحسيّة والمخالطة بالأمور الطبيعية (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) أي : كونوا على عبادتكم المخصوصة بكل واحد منكم بالرياضة وترك الفضول دائما.
[١٢ ـ ١٥] (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))
__________________
(١) سورة الذاريات ، الآية : ٣٠.