والخلاصة أن الكتابة في قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) : إما أن تكون تكليفية على معنى : أن الله ـ تعالى ـ كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة.
وإما أن تكون كتابة قدرية. أى : قضى وقدر ـ سبحانه ـ أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم. وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا ، بل كفروا وعصوا فحرمها ـ سبحانه ـ عليهم.
وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل.
وللإجابة عن المسألة الثانية نقول : اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد ، هانت عليهم نعمة الحرية. وضعف عندهم الشعور بالعزة. وأصبحت حياة الذلة مع القعود. أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عند ما أمرهم نبيهم موسى ـ عليهالسلام ـ بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها مادام الجبارون فيها : وقالوا : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).
فاقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود ، بأن يحكم عليهم بالتيهان في بقعة محدودة من الأرض ، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذي استمرأ الذل والهوان.
قال ابن خلدون في مقدمته .. ويظهر من مساق قوله ـ تعالى ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ومن مفهومه : أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهي فناء الأجيال الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. فسبحان الحكيم العليم» (١).
هذا ولصاحب المنار كلام حسن في حكمة هذه العقوبة ، نرى من المناسب إثباته هنا ، فقد قال ـ رحمهالله ـ في ختام تفسيره لهذه الآيات :
«إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد ، والإحساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد
__________________
(١) مقدمة ابن خلدون. نقلا عن تفسير القاسمى ج ٦ ص ١٩٤٢