أخلاقها ، وتذل نفوسها. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة ، حتى تكون كالغرائز الفطرية. والطبائع الخلقية ، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها ، ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها ، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر.
أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل في مصر ، وطبع عليها بطابع المهانة والذل. وقد أراهم الله ـ تعالى ـ من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى ـ عليهالسلام ـ وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية. ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنون إليها.
وكان الله ـ تعالى ـ يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده ـ تعالى ـ لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشرى ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية. ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة ، وعدل الشريعة ، ونور الآيات الإلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم ، حتى يبين لهم حجته عليهم ، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم.
وعلى هذه السّنة العادلة أمر الله ـ تعالى ـ بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا واستكبروا. فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوما آخرين.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي ضربها الله لنا ، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها (١).
وللإجابة عن المسألة الثالثة ـ وهي ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر ـ نقول : إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم في أسلوب الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم ، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ؛ ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به ـ سبحانه ـ.
كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران.
وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم ، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم .. بما جعلهم أهلا للعقوبات الرادعة وفي كل ذلك تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى ، وتحذير لهم من السير
__________________
(١) تفسير المنار ج ٦ ص ٣٣٧ ـ بتصرف يسير.