وبمطالعتنا لهذه الأحاديث التي وردت في سبب نزول الآيات ، نراها جميعها قد وردت بأسانيدها صحيحة وفي كتب السنة المعتمدة ، وأن بعضها قد حكى أن الآيات نزلت في شأن القضية التي تحاكم فيها اليهود إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وبعضها قد حكى أنها نزلت في قضية دماء. ولا تعارض بين هذه الأحاديث ، فقد يكون هذان السببان قد حصلا في وقت واحد ، أو متقارب ، فنزلت هذه الآيات فيهما معا. وقد قرر العلماء أنه لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات.
هذا ، وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بنداء من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلىاللهعليهوسلم فقال ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا).
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (لا يَحْزُنْكَ) قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاى وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاى. والحزن خلاف السرور. ويقال : حزن الرجل ـ بالكسر ـ فهو حزن وحزين» (١).
والمعنى : يا أيها الرسول الكريم إن ربك يقول لك : لا تهتم ولا تبال بهؤلاء المنافقين ، وبأولئك اليهود الذين يقعون في الكفر بسرعة ورغبة ، ويقولون بأفواههم آمنا بك وصدقناك ، مع أن قلوبهم خالية من الإيمان ، ومليئة بالنفاق والفسوق والعصيان .. لا تهتم ـ أيها الرسول الكريم ـ بهؤلاء جميعا ، فإنى ناصرك عليهم ، وكافيك شرهم.
وفي ندائه صلىاللهعليهوسلم بعنوان الرسالة (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) تشريف له وتكريم وإشعار بأن وظيفته كرسول أن يبلغ رسالة الله دون أن يصرفه عن ذلك عناد المعاندين ، أو كفر الكافرين ، فإن تكاليف الرسالة تحتم عليه الصبر على أذى أعدائه حتى يحكم الله بينه وبينهم.
والنهى عن الحزن ـ وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه ـ المراد به هنا : النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب. وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، وتعز السلوى.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وفي التعبير بقوله : (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ذم لهم على انحدارهم في دركات الكفر بسرعة من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر. فهم يتنقلون بحركات سريعة في ثنايا الكفر ومداخله دون أن
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٨١