نبيه إلى ما يجب عليه نحوهم إذا ما تحاكموا إليه فقال : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
أى : فإن جاءك هؤلاء اليهود متحاكمين إليك ـ يا محمد ـ في قضاياهم ، فأنت مخير بين أن تحكم بما أراك الله ، وبين أن تتركهم وتهملهم وتعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم ، فيما احتكموا فيه إليك ، قاصدين مضرتك وإيذاءك فلا تبال بشيء من كيدهم ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم في قضاياهم ، فليكن حكمك بالعدل الذي أمرت به ، لأن الله ـ تعالى ـ يحب العادلين في أحكامهم.
والفاء في قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ) للإفصاح أى : إذا كان هذا حالهم وتلك صفاتهم فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من خصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).
وجاء التعبير بإن المفيدة للشك ـ مع أنهم قد جاءوا إليه ـ للإيذان بأنهم كانوا مترددين في التحاكم إليه صلىاللهعليهوسلم وأنهم ما ذهبوا إليه إلا ظنا منهم بأنه سيحكم فيهم بما يتفق مع أهوائهم ، فلما حكم فيهم بما هو الحق كبتوا وندموا على مجيئهم إليه.
قال أبو السعود : وقوله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) بيان لحال الأمرين إثر تخييره صلىاللهعليهوسلم بينهما. وتقديم حال الإعراض ، للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه ، حيث كان مظنة الضرر ، لما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق ذلك عليهم ؛ فتشتد عداوتهم ومضارتهم له ، فأمنه الله بقوله : (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) من الضر (١).
وكان التعبير بإن أيضا في قوله (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) للإشارة إلى أنه صلىاللهعليهوسلم ليس حريصا على الحكم بينهم بل هو زاهد فيه ، لأنهم ليسوا طلاب حق وانصاف بل هم يريدون الحكم كما يهوون ويشتهون ، والدليل على ذلك أن التوراة التي بين أيديهم فيها حكم الله ، إلا أنهم جاءوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم مؤملين أن يقضى بينهم بغير ما أنزل الله ، فيشيعوا ذلك بين الناس ، ويعلنوا عدم صدقه في نبوته ، فلما حكم بما أنزل الله خاب أملهم وانقلبوا صاغرين.
وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) تذييل مقرر لما قبله من وجوب الحكم بينهم بالعدل إذا ما اختار أن يقضى بينهم.
يقال : أقسط الحاكم في حكمه ، إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أى عادل ومنه قوله ـ
__________________
(١) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٢٩