وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه ـ سبحانه ـ وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى.
وأرادوا بقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) : أنه ـ سبحانه ـ بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إليهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف.
وأصل الغل ـ كما يقول الراغب ـ تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر. والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال (١).
وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله ـ تعالى ـ منزه عن مشابهة الحوادث. وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء.
والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما في دفع المال وإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل : مقبوض اليد ، كز الكف.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود. وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقول القائل :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل |
|
شكرت نداه تلاعه ووهاده |
ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين.
وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف «غل اليد وبسطها مجاز» فقال : والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن ، فلما كان الجود
__________________
(١) المفردات في غريب القرآن ص ٢٦٣