والبخل معنيين لا يدر كان بالحس. عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات (١).
وقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق ـ سبحانه ـ فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ بسبب سوء أدبهم معه ـ سبحانه ـ وجحودهم لنعمه.
وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الآلوسى ما ملخصه : ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدى الحقيقة ، بأن يغلوا في الدنيا أسارى ـ وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم. ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا. وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله : سبني سب الله دابره أى قطعه ، لأن السب أصله القطع (٢).
وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل.
والمعنى : كلا ـ أيها اليهود ـ ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو ـ سبحانه ـ الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه.
فبسط اليد هنا كناية عن الجود والفضل والإنعام منه ـ سبحانه ـ على خلقه.
وعبر بالمثنى فقال : (بَلْ يَداهُ) للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام ، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه.
قال ابن كثير قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) أى : بل هو الواسع الفضل. الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له. كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) والآيات في هذا كثيرة.
وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ـ أى لا ينقصها الإنفاق ـ سحاء ـ أى مليئة ـ الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء ، وفي يده الأخرى
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٥٥
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٠٨