وقد قالوا في الإجابة عن ذلك : إن تعليق نفى الجناح أى الإثم بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ؛ فإن نفى الإثم عن الذي يتناول المباح قبل أن يحرم لا يشترط بشرط ، وإنما تعليق نفى الجناح بهذه الأحوال ـ وهي التقوى والإيمان ـ وارد على سبيل المدح لهم ، والثناء عليهم ؛ والدلالة على أنهم جديرون بهذه الصفات ، ولإدخال الطمأنينة على قلوبهم حتى يوقنوا بأن من تعاطى شيئا من المحرمات قبل تحريمها فلا يؤاخذه الله على ذلك ، وإنما يؤاخذه إذا تعاطاها بعد تحريمها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله!! كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر؟ فنزلت الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) .. إلخ يعنى أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا ، على معنى : أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان. ومثاله أن يقال لك : هل على زيد جناح فيما فعل؟ فتقول : وقد علمت أن ذلك أمر مباح : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمنا محسنا. تريد : أن زيدا تقى مؤمن محسن ، وأنه غير مؤاخذ بما فعل» (١).
وقال أبو السعود ما ملخصه : ما عدا التقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز (إِذا) شهادة باتصاف الذين سألوا عن حالهم بها ، ومدحا لهم بذلك ، وحمدا لأحوالهم. فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى : مع مالهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال ، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذ ذاك ، ولو حرما في عصرهم لا لاتقوهما بالمرة» (٢).
وأما المسألة الثانية التي كثرت أقوال المفسرين فيها فهي : تكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح. ومرة مع الإيمان ومرة مع الإحسان؟
وقد ذكر القرطبي في ذلك أربعة أقوال فقال :
الأول : أنه ليس في ذكر التقوى تكرار ، والمعنى : اتقوا شربها وآمنوا بتحريمها ، أو دام اتقاؤهم وإيمانهم ، أو على معنى إضافة الإحسان إلى الاتقاء.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦٧٦.
(٢) تفسير أبى السعود ج ٢ ص ٥٧.