وقال القرطبي : ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الداري وعدى بن بداء ، روى البخاري والدّارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدى بن بداء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بنى سهم فتوفى بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب ـ أى عليه صفائح الذهب مثل خوص النخل ـ فاستحلفهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدى وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن الجام للسهمى ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ، قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآيات (١).
هذا ، والمعنى الإجمالى لهذه الآيات : أن الله ـ تعالى ـ شرع لكم ـ أيها المؤمنون ـ الوصية في السفر فعلى من يحس منكم بدنو أجله وهو في السفر أن يحضر رجلا مسلما يوصيه بإيصال ماله لورثته فإذا لم يجد رجلا مسلما فليحضر كافرا ، والاثنان أحوط ، فإذا أوصلا ما عندهما إلى ورثة الميت. وارتاب الورثة في أمانة هذين الرجلين ، فعليهم في هذه الحالة أن يرفعوا الأمر للحاكم ، وعلى الحاكم أن يستحلف الرجلين بالله بعد الصلاة بأنهما ما كتما شيئا من وصية وما خانا.
فإذا ظهر بعد ذلك للحاكم أو لورثة الميت أن هذين الرجلين لم يكونا أمينين في أداء ما كلفهما الميت بأدائه ، فعندئذ يقوم رجلان من أقرب ورثة الميت ، ليحلفا بالله أن شهادتهما أحق وأولى من شهادة الرجلين الأولين ، وأن هذين الرجلين لم يؤديا الوصية على وجهها.
ثم بين ـ سبحانه ـ في الآية الثالثة أن ما شرعه الله لهم هو أضمن طريق لأداء الشهادة على وجهها الصحيح وعليهم أن يراقبوه ويتقوه لكي يكونوا من المؤمنين الصادقين :
هذا هو المعنى الإجمالى للآيات الكريمة سقناه قبل تفصيل القول في تفسيرها حتى يتهيأ الذهن لفهمها بوضوح.
قال الآلوسى : وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) .. إلخ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم ، إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم وفيه من إظهار العناية بمضمونه ما لا يخفى.
وللشهادة معان منها ، الإحضار والقضاء ، والحكم ، والحلف ، والعلم والإيصاء ، والمراد بها هنا الأخير ، كما نص عليه جماعة من المفسرين» (٢).
وقوله : (شَهادَةُ) يصح أن يكون مبتدأ وخبره قوله : (اثْنانِ) على حذف مضاف. أى : شهادة اثنين.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٤٦
(٢) تفسير الآلوسى ج ٧ ص ٤٦