والمراد بالنعمة في قوله (اذْكُرْ نِعْمَتِي) النعم المتعددة التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة ، واصطفاها على نساء العالمين. وفي ندائه ـ سبحانه ـ لعيسى بقوله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها ، فقد ولد من غير أب ، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها ، لأن الإله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا. (١) وقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) تعديد للنعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على عيسى.
وقوله (أَيَّدْتُكَ) أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية.
والمراد بروح القدس : جبريل ـ عليهالسلام ـ فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى ، وبالتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها.
وقيل : المراد (بِرُوحِ الْقُدُسِ) روح عيسى حيث أيده ـ سبحانه ـ بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية وسيطرت.
أى : أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال ، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء.
والمهد : سن الطفولة والصبا ـ والكهولة : السن التي يكون في أعقاب سن الشباب.
والمعنى : اذكر يا عيسى نعمى عليك وعلى والدتك ، وقت أن قويتك بروح القدس الذي تقوم به حجتك ، ووقت أن جعلتك تكلم الناس في طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم في حال كهولتك واكتمال رجولتك.
وقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ظرف لنعمتي. أى : اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك. وذكر ـ سبحانه ـ كلامه في حال الكهولة ـ مع أن الكلام في هذه الحالة معهود في الناس ـ للإيذان بأن كلامه في هاتين الحالتين ـ المهد والكهولة ـ كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير ، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة. قال الرازي : وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له ، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده.
وقال ابن كثير : قوله (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) أى في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي (وَعَلى والِدَتِكَ) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة و (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل ،
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ١٢٥