(خائِنَةٍ) صفة لموصوف محذوف أى على فرقة خائنة أو طائفة.
والمعنى : ولا تزال ـ أيها الرسول الكريم ـ ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة. وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم ، وغدرهم ونقضهم لعهودهم. إلا قليلا منهم دخلوا في الإسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة. فكأن الله ـ تعالى ـ يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئا مستبعدا ، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد : وفيها ـ أيضا ـ تحذير له صلىاللهعليهوسلم من شرورهم ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الإسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله (وَلا تَزالُ) المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) استثناء من الضمير المجرور في قوله (خائِنَةٍ مِنْهُمْ) والمراد بهذا العدد القليل منهم ، أولئك الذين دخلوا في الإسلام ، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله.
ثم ختم سبحانه ـ الآية بقوله : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والعفو عدم مقابلة الإساءة بمثلها.
والصفح : ترك اللوم والمعاتبة. ولذا قالوا : الصفح أعلى رتبة من العفو ، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا. أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن.
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالعفو والصفح عنه :
١ ـ فيرى بعضهم أن المراد بهم ، القلة اليهودية التي أسلمت ، واستثناها الله بقوله (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهذا الرأى مردود بأنهم ماداموا قد آمنوا ، فقد عصموا دماءهم وأموالهم ، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع.
٢ ـ ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلىاللهعليهوسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود ، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) وهذا الرأى ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر ـ كما سنبين.
__________________
(١) سورة التوبة آية ٢٩