والفاء في قوله (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) للافصاح ، لأنها تفصح عن جواب شرط مقدر أى : قل يا محمد لهؤلاء المغرورين ، إن كان الأمر كما زعمتم من أنكم أبناء الله وأحباؤه فلأى شيء يعذبكم إذ الحبيب لا يعذب حبيبه.
وإن واقعكم يا أهل الكتاب يناقض دعواكم ، فقد عذبكم ـ سبحانه ـ في الدنيا بسبب ذنوبكم بالقتل والأسر والمسخ وتهييج العداوة والبغضاء بينكم إلى يوم القيامة.
أما في الآخرة فإن كتبكم التي بين أيديكم تشهد بأنكم ستعذبون في الآخرة على ما تقترفون من آثام في دنياكم.
وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم ـ في زعمهم ـ أياما معدودات في الآخرة وحكى القرآن عنهم ذلك في قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) :
وأقر النصارى بأن الله ـ تعالى ـ سيحاسب الناس يوم القيامة ، وسيجازى كل إنسان على حسب عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
قال القرطبي : «رد الله عليهم قولهم فقال : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين ، إما إن يقولوا هو يعذبنا ، فيقال لهم : فلستم إذا أبناءه ولا أحباءه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه. وأنتم تقرون بعذابه ، فذلك دليل على كذبكم ـ وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف ـ أو يقولوا : لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم ، وما جاءت به رسلهم. ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم ، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم» (١) وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) رد على أصل دعواهم الباطلة ، وبيان لما هو الحق من أمرهم وهو معطوف على كلام مقدر.
أى : ليس الأمر كما زعمتم يا معشر اليهود والنصارى من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل الحق أنكم كسائر البشر من خلق الله. فإنكم إن آمنتم وأصلحتم أعمالكم نلتم الثواب من الله ، وإن بقيتم على كفركم وغروركم حق عليكم العقاب ، وليس لأحد فضل على أحد إلا بالإيمان والعمل الصالح.
قال أبو حيان قوله : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) إضراب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلال آخر من ثبوت كونهم بشرا من بعض خلقه ، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث ، وهما يمنعان البنوة ، فإن القديم لا يلد بشرا ، والأب لا يخلق ابنه ، فامتنع بهذين الوجهين البنوة. وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله ، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما» (٢).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٢٠
(٢) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٢ ص ٤٥١