وذر فعل أمر بمعنى اترك ، ومضارعه يذر ، ولا يستعمل له ماض إلا في النادر ، ومن هذا النادر ما جاء في الحديث الشريف : «ذروا الحبشة ما وذرتكم».
و «يتمتعوا» من المتاع بمعنى الانتفاع بالشيء بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب.
«ويلههم» : من الانشغال عن الشيء ونسيانه ، يقال : فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه ، أى : شغله.
والأمل : الرغبة في الحصول على الشيء ، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.
والمعنى : اترك ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء الكافرين ، وخلهم وشأنهم ، ليأكلوا كما تأكل الأنعام ، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون ، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك ، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم في العاجل أو الآجل.
قال صاحب الكشاف : وقوله (ذَرْهُمْ) يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم من النهى عما هم عليه ، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة ، واتركهم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم ، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال. وألا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم (١).
وإنما أمره ـ سبحانه ـ بذلك ، لعدم الرجاء في صلاحهم ، بعد أن مكث فيهم الرسول صلىاللهعليهوسلم زمنا طويلا ، يدعوهم إلى الحق ، بأساليب حكيمة.
وفي تقديم الأكل على غيره ، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب. قال ـ تعالى ـ : (... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٢) كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار في الحياة على إشباع اللذات الجسدية ، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق ، يدل على سقوط الهمة ، وبلادة الطبع. قال الحطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها |
|
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى |
أى : واقعد عن طلب المكارم والمعالي فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك.
والفعل «يأكلوا» وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر «ذرهم» ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة ، الدالة على التوعد والتهديد ، ولا يستحسن جعله مجزوما في جواب
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨٧.
(٢) سورة محمد الآية ١٢.