والعبرة : مصدر بمعنى العبور ، أى : التجاوز من محل إلى آخر ، والمراد بها هنا : العظة والاعتبار والانتقال من الجهل إلى العلم ، ومن الغفلة إلى اليقظة.
أى : وإن لكم ـ أيها الناس ـ في خلق الأنعام ، وفيما يخرج منها من ألبان لعبرة عظيمة ، وعظة بليغة ، ومنفعة جليلة توجب عليكم إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ومداومة الشكر له على نعمه. فالتنكير في قوله (لَعِبْرَةً) للتفخيم والتهويل.
وقوله ـ تعالى ـ : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استئناف بيانى ، كأنه قيل : وما وجه العبرة في الأنعام؟ فكان الجواب : نسقيكم مما في بطونه.
قال الآلوسى : والضمير في «بطونه» يعود للأنعام ، وهو اسم جمع ، واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه ، ويجوز تأنيثه وجمعه باعتبار معناه ...» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) بيان لموطن العبرة ومحل النعمة ، ومظهر الدلالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ورحمته ..
والفرث : الطعام المتبقى في أمعاء الحيوان بعد هضمه. وأصل الفرث : التفتيت. يقال فرثت كبده. أى : فتتتها.
قال الجمل ما ملخصه : والفرث : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش ـ بفتح الكاف وكسر الراء ـ فإذا خرجت من الكرش لا تسمى فرثا بل تسمى روثا. وقوله (لَبَناً) مفعول ثان لنسقيكم ، والأول هو الكاف» (٢).
والخالص : النقي الصافي الخالي من الشوائب والأكدار. يقال خلص الشيء من التلف خلوصا ـ من باب قعد ـ إذا سلم منه.
والسائغ : اللذيذ الطعم ، السهل المدخل الى الحلق. يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغا. من باب قال ـ إذا سهل مدخله في الحلق.
أى : نسقيكم من بين الفرث والدم الذي اشتملت عليه بطون الأنعام ، «لبنا» نافعا لأبدانكم «خالصا» من رائحة الفرث ، ومن لون الدم ، مع أنه موجود بينهما «سائغا للشاربين» بحيث يمر في الحلوق بسهولة ويسر ، ويشعر شاربه بلذة وارتياح.
__________________
(١) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٧٦.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٨٠.