وقدم ـ سبحانه ـ قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) على قوله (لَبَناً) ، لأن خروج اللبن من بينهما هو موطن العبرة ، وموضع الدليل الأسمى على قدرة الله ـ تعالى ـ ووحدانيته.
قال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) أى : يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله ـ تعالى ـ ، بحيث لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله ... فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكر وتأمل. وسئل «شقيق» عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم.
ثم قال ـ رحمهالله ـ : فإن قلت : أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟.
قلت : الأولى للتبعيض ، لأن اللبن بعض ما في بطونها ... والثانية لابتداء الغاية ، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ ...
وإنما قدم قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) لأنه موضع العبرة ، فهو قمن بالتقديم» (١).
وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية : «ومن تدبر في بدائع صنع الله ـ تعالى ـ فيما ذكر من الأخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ، وتسخير القوى المتصرفة فيها ... اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه ـ سبحانه ـ وقدرته ، وحكمته ، وتناهى رأفته ورحمته :
حكم حارت البرية فيها |
|
وحقيق بأنها تحتار (٢) |
والحق ، أن هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة على وحدانية الله تعالى ونفاذ قدرته ، وعجيب صنعته ، حيث استخرج ـ سبحانه ـ من بين فرث ودم في بطون الأنعام ، لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وهذا الاستخراج قد تكلم العلماء المتخصصون عن كيفيته وعن مراحله .. كلاما يقوى إيمان المؤمنين ، ويدفع باطل الملحدين.
هذا ، وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن اللبن نعمة جزيلة من نعم الله ـ تعالى ـ على خلقه.
قال القرطبي ما ملخصه : «روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلبن فشرب ، ثم قال : «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل ، اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦١٦.
(٢) تفسير الآلوسي ج ١٤ ص ١٧٨.