قال بعض العلماء. سئل القاضي إسماعيل (١) البصري عن السر في تطرّق التغيير للكتب السالفة ، وسلامة القرآن من ذلك فأجاب بقوله : إن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : «بما استحفظوا من كتاب الله» وتولى ـ سبحانه ـ حفظ القرآن بذاته فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).
وقد ذكر الإمام القرطبي ما يشبه ذلك نقلا عن سفيان بن عيينة في قصة طويلة (٣).
والخلاصة ، أن سلامة القرآن من أى تحريف ـ رغم حرص الأعداء على تحريفه ورغم ما أصاب المسلمين من أحداث جسام ، ورغم تطاول القرون والدهور ـ دليل ساطع على أن هناك قوة خارقة ـ خارجة عن قوة البشر ـ قد تولت حفظ هذا القرآن ، وهذه القوة هي قوة الله ـ عزوجل ـ ولا يمارى في ذلك إلا الجاحد الجهول ...
ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم عما أصابه من سفهاء قومه ، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم ، فقال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
قال الجمل : «لما أساءوا في الأدب ، وخاطبوه صلىاللهعليهوسلم خطاب السفاهة ، حيث قالوا له : «إنك لمجنون» ، سلّاه الله فقال له : إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا ، وكانوا يصبرون على أذى الجهال. ويستمرون على الدعوة والإنذار ، فاقتد أنت بهم في ذلك ...» (٤).
والشيع جمع شيعة وهي الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد ، من شاعه إذا تبعه ، وأصله ـ كما يقول القرطبي ـ مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.
والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ رسلا كثيرين ، في طوائف الأمم الأولين ، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء ، كما قابلك سفهاء قومك.
__________________
(١) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد الأزدى البصري ولد سنه ٢٠٠ ه وتوفى سنة ٢٨٢. كان من الأئمة الأعلام في التفسير والحديث والفقه.
(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ١٤ ص ٢١ لسماحة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
(٣) راجع تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٥.
(٤) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٩.