والمراد بالإنزال في قوله (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). الإيجاد والإخراج إلى هذه الدنيا ، مع تمكين الناس من الحصول عليه.
أى : وما نخرج هذا الشيء إلى حيز الوجود بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به إلا ملتبسا بمقدار معين ، وفي وقت محدد ، تقتضيه حكمتنا ، وتستدعيه مشيئتنا ، ويتناسب مع حاجات العباد وأحوالهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (١).
ثم انتقل ـ سبحانه ـ من الاستدلال على وحدانيته وقدرته بظواهر السماء وبظواهر الأرض ، إلى الاستدلال على ذلك بظواهر الرياح والأمطار فقال ـ تعالى ـ : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) والآية الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق ذكره من النعم.
والمراد بإرسال الرياح هنا : نقلها من مكان إلى آخر بقدرة الله ـ تعالى ـ وحكمته.
وقوله (لَواقِحَ) يصح أن يكون جمع لاقح. وأصل اللاقح : الناقة التي قبلت اللقاح فحملت الجنين في بطنها ..
ووصف ـ سبحانه ـ الرياح بكونها لواقح. لأنها حوامل تحمل ما يكون سببا في نزول الأمطار كما تحمل النوق الأجنة في بطونها.
أى : وأرسلنا بقدرتنا ورحمتنا الرياح حاملة للسحاب وللأمطار ولغيرهما ، مما يعود على الناس بالنفع والخير والبركة.
ويصح أن يكون لفظ «لواقح» جمع ملقح ـ اسم فاعل ـ وهو الذي يلقح غيره ، فتكون الرياح ملقحة لغيرها كما يلقح الذكر الأنثى.
قال الإمام ابن كثير : قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أى : تلقح السحب فتدر ماء ، وتلقح الأشجار فتتفتح عن أوراقها وأكمامها (٢).
وقال بعض العلماء : ومعنى الإلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين ، فينشأ عن ذلك البخار الذي يصير ماء في الجو ، ثم ينزل مطرا على
__________________
(١) سورة الشورى الآية ٢٧.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٤٤٨.