إذ أن اللام في قوله (لَئِنْ ...) موطئة للقسم ، وجوابه لأحتنكن.
وأصل الاحتناك : الاستيلاء على الشيء ؛ أو الاستئصال له. يقال : حنك فلان الدابة يحتنكها ـ بكسر النون ورفعها ـ إذا وضع في حنكها ـ أى في ذقنها ـ الرسن ليقودها به. ويقال : احتنك الجراد الأرض ، إذا أكل نباتها وأتى عليه.
والمعنى : قال إبليس ـ متوعدا ومهددا ـ : لئن أخرتن ـ يا إلهى ـ إلى يوم القيامة ، لأستولين على ذرية آدم ، ولأقودنهم إلى ما أشاء من المعاصي والشهوات ، إلا عددا قليلا منهم فإنى لا أستطيع ذلك بالنسبة لهم ، لقوة إيمانهم ، وشدة إخلاصهم.
وهذا الذي ذكره ـ سبحانه ـ عن إبليس في هذه الآية من قوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) شبيه به قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١).
وقوله ـ تعالى ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).
قال بعض العلماء : وقول إبليس في هذه الآية : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ...) قاله ظنا منه أنه سيقع. وقد تحقق له هذا الظن ـ في كثير من بنى آدم ـ كما قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).
وقوله ـ تعالى ـ (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) بيان لما توعد الله ـ سبحانه ـ به إبليس وأتباعه.
والأمر في قوله (اذْهَبْ) للإهانة والتحقير. أى : قال الله ـ تعالى ـ لإبليس (اذْهَبْ) مطرودا ملعونا ، وقد أخرناك إلى يوم القيامة ، فافعل ما بدا لك مع بنى آدم ، فمن أطاعك منهم ، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم ، جزاء مكملا متمما لا نقص فيه.
وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) مع أنه قد تقدم غائب ومخاطب في قوله (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) ، تغليبا لجانب المخاطب ـ وهو إبليس ـ على جانب الغائب وهم أتباعه. لأنه هو السبب في إغواء هؤلاء الأتباع.
وقوله : (جَزاءً) مفعول مطلق ، منصوب بالمصدر قبله.
__________________
(١) سورة الأعراف الآية ١٧.
(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.
(٣) سورة سبأ الآية ٢٠.