وهذا الذي يحاسبهم يوم القيامة يعلم الأعين الخائنة التي تسرق النظر إلى المحرم وتختلسه اختلاسا حتى لا يشعر بها أحد من الجالسين ، ويعلم ما تخفيه الصدور من الرغبات والحاجات والنوايا ، والإنسان يصدر عنه عمل نفسي قلبي أو عمل بالجوارح ، فإذا كان الله يعلم أدق شيء عن جوارح الإنسان وهو النظر خلسة فمن باب أولى أن يعلم اليد التي تبطش والرجل التي تسير واللسان الذي يتكلم ، ويعلم كذلك خطرات القلوب وما تخفيه الصدور وهو يعلم السر وأخفى ، ويا ويلنا إذا كان يحاسبنا وهو من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور!!
والله يقضى بالحق ، لا ظلم اليوم ، فلا تظلم نفس شيئا ، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله وكفى به خير الحاسبين.
والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء ، وكيف يقضون ، وهم لا يعلمون شيئا ، إن الله هو السميع لكل قول ، والعليم بكل فعل ، وسيجازى على ذلك كله.
نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون ، فذرك أنه قريب ، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى ، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا ، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع ، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده ، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء ، وهو وحده السميع البصير.
ولما بالغ الحق ـ تبارك وتعالى ـ في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا ، وبيان ما عمله الله مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه :
أغفلوا ولم يسيروا (١) في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما ، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وقد أثاروا الأرض وزرعوها ، وأصبحت لهم مدن وحضارة ، وزراعة وصناعة ولكنهم
__________________
(١) الاستفهام إنكارى ، و (كيف) خبر مقدم لكان ، و (عاقبة) اسمها ، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب على المفعول لينظروا ، وقوله تعالى : (كانوا هم أشد منهم قوة) جواب (كيف).